بحكم الموقع الجغرافي فقط, انحازت الذهنية السياسية الاردنية, الى عبقرية خالد بن الوليد في غزوة مؤتة, التي دارت رحاها جنوب الاردن, في مدينة الكرك على ربوة مؤتة الوادعة, وحولتها من خطة عسكرية مبدعة, الى نموذجية سياسية محبطة, فعبقرية خالد بعد استلامه اول مهمة قيادية في الاسلام, تجلّت بقلب الميمنة الى ميسرة والامام الى الخلف, وإحداث غبار يشي بقدوم المدد, والهدف كان تعزيز قدرة قواته القتالية, وزعزعة العدو, بأن الجيش جاءه المدد, فكان الانسحاب التكتيكي, الذي حماه رسول الله بقوله " بل كرّار وليسوا فرّار".
الحكومات الاردنية المتعاقبة نجحت وبمهارة استثنائية, في تعميق الخطة العسكرية, ونقلها الى ملعب السياسة, فقد اعتدنا ومنذ عقود طويلة على استنساخ تجربة خالد, فنحن ننقل المسؤولين من الميمنة الى الميسرة, ومن الامام الى الخلف, ومن المقاعد الحكومية الى مقاعد الاعيان, او الى مقاعد مجالس الادارات والشركات, دون ادنى مراعاة لكفاءة المنقول, فالمهم ان يُصاب الشعب بحالة من الارتباك حتى يعجز عن قراءة المشهد دون ان يصيبه الملل من مراقبة الحركة.
اجزم ان الانحياز كان جغرافياً فقط, لأن في خطط خالد العسكرية الكثير مما نحتاجه في الحياة السياسية, على فرض ان المسؤول الاردني محترف في فكفكة الخطط وتحويلها الى خرائط عمل, فمثلا هناك خطة عبقرية للقائد خالد, عن سرعة الوصول الى الهدف بأسرع وقت وأقل كلفة, حين جعل العطش يأخذ مأخذه من إبل وبعير القوات الاسلامية, ثم جلب الماء لها لتشرب ما تشاء, كي تقطع الصحراء لإختصار المسافة كي يصل الى معسكر قوات المسلمين ونصرتهم في معركة حاسمة.
دون شك فالحالة الاردنية اليوم تحتاج الى الخطة الثانية وليس الى خطة الاستبدال, فنحن افرطنا في التساهل بضرورة الاصلاح على كل المستويات, وكان الاجدى بعد عطش الحالة وتصحرّها, ان نُترع الفرق الحكومية ولجان الاصلاح, بالكثير من الماء, كي يقطعوا الصحراء السياسية بسرعة ووقار, ودون الحاجة الى محطات الشرب والراحة والحوارات, ومليء بطونهم بالمناسف والكنافة, حتى تترهل كروشهم ويفقدوا القدرة على الحركة.
لن الوم الجغرافيا, فلو ان حادثة تعطيش الإبل حدثت في الاردن, وحادثة الاقلاب حدثت في العراق لكان الامر مختلف, فالجغرافيا في كثير من تضاريسها صادمة, ليس لانها تاريخ صامت, ولا لأن التاريخ جغرافيا متحركة, بل لان العقول استأنست الفكرة, وسارت على نهج الجاهلية ( انا رأينا اباءنا), حيث الكُفر كان انحيازا للاباء فقط, دون تحريك العقل او انضاجه بالتمارين الرحكية والتجارب العلمية والعملية.
فما نراه اليوم نموذج ممسوخ لتجربة خالد وعبقريته, فكيف يستقيم الحال في وزير يتسلم حقائب متعددة, علما بأنه لم يحقق اي نجاح يُذكر في حقيبة الاختصاص, وليس لدينا حكومات سياسية حتى نقبل تنوع الحقائب كما هو الحال في الحكومات السياسية والحزبية, فنحن لدينا وزراء تكنوقراط كما قيل لنا في تقديم مشهد الاقلاب, وليتنا استدركنا الامر مؤخرا, وقرأنا نموذج التعطيش, كي نصل بسرعة الى الاهداف المرجوة, فنحقق غايتنا ونكتال حمل بعير, فنحن لم ننجح سوى بإحداث الغبار ولم يصل المدد, وبقينا في حالة فرار من المواجهة وتكرار للفشل.
omarkallab@yahoo.com