الأنباط -
وبالرغم من عدم الخلاف عالمياً على مسألة مكافحة التدخين لما له من تكاليف باهظة على عدة نواح، وبالرغم من ظهور بدائل التبغ التي تقصي عملية الحرق المسؤولة عن إنتاج المود الكيميائية الضارة في السجائر وبالتالي المسؤولة عن الأمراض المرتبطة بالتدخين، والمدعمة بالأدلة العلمية، إلا أن الاختلاف في منهجية مكافحة التبغ لا زالت تطفو على السطح مع انقسامات بين مؤيد ومعارض للسياسة الأزلية السائدة التي لم تستطع حتى اليوم أن تأتي بنتائج إيجابية، والتي يتم معها الإفراط في التشريع والتنظيم وتشديد القوانين وزيادة الضرائب على المنتجات التقليدية، وبين مؤيد ومعارض للسياسة المبتكرة والقائمة على الحد من الضرر بالسماح للذين لا يرغبون بالإقلاع عن التدخين بالوصول لمنتجات بديلة تنتج مستويات أقل بكثير من المواد الكيميائية الضارة مقارنة بالسجائر التقليدية التي تعمل على حرق التبغ.
الباحث في التجربة اليابانية، سيجد أهمية الانفتاح على سياسة الحد من الضرر؛ حيث تمكنت اليابان جراء اتباعها هذه السياسة منذ سنوات قليلة، من تحقيق انخفاض قياسي في استهلاك السجائر التقليدية كما لم يتم تحقيقه في أي بقعة أخرى في العالم، مسجلة إجمالي مبيعات من السجائر التقليدية خلال الربع الأول من العام الحالي 2021 بلغ حوالي 25 مليار سيجارة مقابل 43.6 مليار سيجارة عن نفس الفترة من العام 2016، أي بانخفاض نسبته 43% خلال نصف عقد تقريباً.
ولعل هذه النتائج التي تعبر عن نجاح غير مسبوق في مكافحة التبغ، تعزى لتحول المدخنين البالغين في اليابان من السجائر التقليدية للمنتجات البديلة المعتمدة على تقنية التسخين، الأمر الذي تم بتشريع وموافقة من الحكومة اليابانية التي ارتأت تجربة التطبيق الفعلي لاستراتيجيات مفهوم "الحد من الضرر" المدرجة في تعريف منظمة الصحة العالمية لمكافحة التبغ، والذي لا يتم تبنيه وتطبيقه بالشكل المطلوب في العالم حتى من قبل المنظمة نفسها، متيحةً ثلاثة أنواع من المنتجات البديلة في السوق اليابانية التي شهدت تنظيماً للبدائل مع هيكلة سعرية معقولة، حتى باتت تعتبر اليوم من أكبر أسواق منتجات التبغ البديلة، مسجلة ما نسبته 85% من إجمالي مبيعات هذه العالمية في العام 2018، مع تراجع مستمر في مبيعات السجائر التقليدية.
وقد شكلت النتائج اليابانية مصدر إلهام لعدد من الدول المجاورة التي حذت حذو اليابان في منهجيتها في مكافحة التدخين، لا سيما كوريا الجنوبية التي أتاحت مجموعة من المنتجات البديلة محلياً، مما أدى إلى انخفاض ملحوظ في مبيعات السجائر التقليدية، وهو ما يعتبر برهاناً آخر على فاعلية إجراءات اليابان المستقاة من سياسة الحد من الضرر، وإن لم تكن مكتملة الأركان تماماً، واعتبارها من قِبَل منتقدي السياسة التقليدية كنموذج يجب الاحتذاء به في دول العالم التي لا تزال أغلبها تميل لفرض تدابير صارمة على المنتجات البديلة.
في الجهة المقابلة، فإن هذه النتائج لا يزال يتم تجاهلها وتقزيم أهميتها وآثارها من قِبَل المنظمات والحملات المناهضة للتدخين، مثل حملة "من أجل أطفال بلا تبغ (CTFK)" الممولة من مايكل بلومبيرج، والتي تعتبر حملة لمكافحة التبغ في الظاهر، ومثل منظمات الصحة الرائدة كمنظمة الصحة العالمية، وهو الأمر الذي يعود بحسب مؤيدي الحد من الضرر إلى عدم وجود حملات تثقيفية كافية من قِبَل الحكومة اليابانية حول المنتجات البديلة وأهمية التحول إليها، وتركها هذه المهمة للمصنعين.
وتعليقاً على ذلك، استهجن الدكتور كلايف بيتس من شركة Counterfactual Consulting والمدير السابق للعمل بشأن التدخين والصحة (المملكة المتحدة) عدم الاهتمام بالبحث على نحو أعمق في أسباب انخفاض معدلات التدخين في اليابان لدى اتباع سياسة الحد من الضرر مقابل عدم انخفاضها بهذه السرعة بالرغم من جهود مكافحة التدخين باتباع السياسة التقليدية على مر السنوات. وقال بيتس: "تلعب العلاقة غير التوافقية المعروفة بين صناع التبغ ومنظمات الصحة العامة دوراً كبيراً في تجاهل أية نتائج إيجابية وتغييرات نوعية كالتي شهدتها اليابان والتي يجب تفسيرها ودعمها للبناء عليها والاستفادة منها وتكرارها في دول أخرى."
أما المدير التنفيذي للشبكة الدولية لمنظمات مستهلكي النيكوتين "INNCO"، وهي منظمة عالمية غير ربحية تهدف للدفاع عن الحد من أضرار التبغ على مستهلكي النيكوتين البالغين، الدكتور تشارلز جاردنر، فقد صرح بأن المنتجات البديلة القائمة على تسخين التبغ أسهمت في خفض مبيعات السجائر التقليدية في اليابان بنسبة وبفترة زمنية لم يسبق بلوغها من قبل في التاريخ، مستغرباً أيضاً من عدم اهتمام مجتمع مكافحة التبغ بالوقوف وراء أسباب هذا الانخفاض.
ونظراً للتشدد والتمسك بالسياسة التقليدية لمكافحة التدخين من جهة، وللالتباس الحاصل نتيجة سوء الفهم للاختلافات بين السجائر التقليدية والمنتجات البديلة التي رخصت إدارة الغذاء والدواء الأميركية العديد منها، وسوء الفهم للاختلافات بين حجم الضرر بين الفئتين، فقد انتشرت المنتجات غير المشروعة من المنتجات البديلة كسجائر "إيفالي EVALI" المنتشرة في أميركا والمحتوية على نسب عالية من مركب زيت (رباعي هيدروكانابينول THC)، فاختلط الأمر بين المنتجات المشروعة والمدعمة بالأدلة العلمية من المنتجات البديلة وبين المنتجات المقلدة والمزورة.
وفي هذا السياق، فإن الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، والتي تأخرت في علاج مواطن سوء الفهم وتبني سياسة الحد من الضرر، شهدت في العام 2020 زيادة في مبيعات السجائر التقليدية بنسبة عالية، علماً بأن إدارة الغذاء والدواء الأميركية منحت في ذات العام موافقتها وترخيصها لبيع وتسويق منتج IQOS في أميركا، وهو منتج شركة فيليب موريس إنترناشونال القائم على تسخين التبغ إلكترونياً، والذي يعد منتجاً مناسباً لحماية الصحة العامة باعتباره من المنتجات معدلة المخاطر (MRTP)؛ إذْ يعمل المنتج وهو من المنتجات البديلة المتوفرة في اليابان، على تسخين التبغ لا حرقه، وبالتالي تخفيض مستويات المواد الكيميائية الضارة أو التي قد تكون ضارة.
وفي الوقت الذي يقلل التحول فيه للمنتجات البديلة خاصة تلك المعتمدة على تقنية تسخين التبغ المطورة كنتيجة للبحث والعلم والابتكار والتكنولوجيا وهي الركائز التي لا تزال تتقدم يوماً بعد يوم، من التعرض للمواد الكيميائية الضارة أو التي يحتمل أن تكون ضارة من تلك التي تنتجها عملية الحرق، ما يسفر عن تخفيض احتمالية الإصابة بالأمراض المرتبطة بالتدخين، فإن التدخين التقليدي لا يزال يعد السبب الأول للوفاة بالأمراض المختلفة التي يمكن الوقاية منها. كذلك، فإن المنتجات البديلة القائمة على التبخير تعد أيضاً أقل ضرراً بكثير من تلك التقليدية القابلة للاحتراق وفقاً للعديد من هيئات وسلطات الصحة العامة بما في ذلك الكلية الملكية للأطباء في المملكة المتحدة، والأكاديميات الوطنية الأميركية للعلوم والهندسة والطب.
الخبير في صناعة التبغ ورئيس المجلس الاستشاري لمركز قانون وسياسة وأخلاقيات الصحة في جامعة أوتاوا، ديفيد سوينور، قال بأن السياسة المتبعة من قبل مناهضي التبغ على مستوى العالم ممولة من مبادرة بلومبيرج المضللة لحظر السجائر الإلكترونية المعتمدة على التسخين والتبخير لأهداف غير معلنة، مبيناً أن التجربة اليابانية خير دليل على كفاءة سياسة الحد من الضرر وهو ما يطرح العديد من التساؤلات التي تتطلب الإجابة من الجهات المعنية، كما يفتح الباب لتبني هذه السياسة الواعدة.