الأنباط -
الأكاديمي مروان سوداح
قبل أيام، توجهت ليلًا لقضاء بعض المُشتريات في المَحال التي أتردد عليها بين حين وآخر. كان في عين المكان الواسع صفوف متلاطمة ومتقابلة ومتجاورة من المحليين والأجانب، تشهد وجوههم وسِحنهم الشقراء والبيضاء الوضّاءة على أنهم انتقلوا إلى بلادنا من جِنانٍ عديدة تقع وراء المحيط وخلف مياه المتوسط. البعض من هؤلاء كان يُسرع الخُطى إلى مكان ما ونحو شيء ما، والآخرون من فتيان وفتيات وشباب وشابات شرعوا يتمايلون بفرحٍ وكأنهم في مَرقص أو حديقة أو حفلة تنكرية. كان الطقس باردًا، وبالنسبة لنا نحن كبار السّن كان يبدو صقيعيًا يُنذر بثلوج قاهرة لشيخوختنا. الأجواء مُعتمة وصادمة، ويَسود بعض زوايا المَكان وجوم عميق وأجواء خُيّل إلي أنها باكية وتنذر بشؤم ما وحوادث حزنٍ وأسى، برغم تمايل الصِّغار على "خشبة المسرح العام" في الهواء الطلق المنعش لهم كما يبدو!
هناك، لاحظت أن أعداداً كبيرة من المواطنين، صغيرهم وكبيرهم، لا يأبهون لمصفوفة الوقاية الصحية من فيروس كورونا اللعين الذي لا يستأذن أحداً للدخول إلى جسده والإقامة فيه مجاناً بدون استئجار ولا عقد إيجار! هؤلاء من أبناء الوطن كانوا يتبادلون النكات وحلو الكلام، بل إن بعضهن رَقَصْنَ ("على الخفيف")، ربما لنجاح ما أحرزنه. جرى كل ذلك وغيره بالرغم من الإعلانات الحكومية المتلاحقة بشأن الوقاية من الجائحة المستمرة بالهجوم على أجسادنا وأرواحنا. عندها، في خضم هذه الأجواء، خَلُصت إلى استنتاج أن المواطن تَعب ومَل الطقوس المَشحونة بالتوتر الكوروني ومخاطره وأسلحته القتّالة التي لم نتمكن للآن من الكشف النهائي عن أسرار "تقنياتها" المتطورة، ولا عن مخابئ خلاياها النائمة في أرجاء الوطن بمدنهِ وقُراه وباديته وصحاريه وقِمَم جباله الشاهقات وسهوله الواسعات، وها هو "يُنفّس عن نفسهِ" بوسائله البسيطة ودون أن يدفع "تعريفة" واحدة لقاء ذلك لكائنٍ مَن كان.
وفي بعض المَحال الغذائية والمخابز و"السوبرماركيتات" وتلك التي تبيع الملابس والأحذية "ومُستلزمات حفلات المَشَاوي" والسجائر وغيرها، شاهدتُ عددًا من المُنتفضين على سلطة الكِمّامات غير آبهين لضرورات التجيّش بها، بل إنهم لم يَهتموا حتى لنظرات انتقاد مِن غيرهم من أصحابها المتمسكين بها شكلًا وحرفًا وكأنّهن حبيبات العمر اللواتي لا فُراق معهن، مُذعنين لِ "كلَبشَاتِها" وراغبين بها طوعًا بوجوه باسمة.
في مقابل هذه المشاهد، كان "البعض" مَشدوداً بتعابيره الجسدية الصارمة، وقد غطت وُجوههم الكِمامات، فجَحظت عيونهم "فقط لا غير!"، كأنهم أطباء وطبيبات ومُمَرضات من جنس الملائكة يَذرعن ممرات غرف الإنعاش جَيْئَةً وذَهابًا، وبأيديهم مَباضع وجهاز إنعاش لتشغيل قلبٍ ما ذَبُلَ فتوقف فجأة عن الخفقان!
راقبت كل ذلك حيث اختلط الحابل والنابل. أنظرُ دون وعي يُمنة ويُسرى. شعرت بأنني أقع (إلى تحت). ارتطمتُ بالأرض من شدة الإنهاك! في الواقع أنا لم أبذل أي جهد عضلي لأتعب وأهوى إلى القَعرِ، فقد نسيت نفسي وكِمامتي والإرهاق الذي أصابني من شدة التطلع إلى كل الاتجاهات في الشارع العام لملاحقة الغرائب في زمن كورونا العجائبي، حيث مَشَاهِد لم يألفها عقلي ولم أرَها سوى في بلدان أجنبية وبقاعٍ أخرى خارجية هستيرية، وليس في بلدي. أسعفني بعض المارة ورشّوا على وجهي ماءً باردًا أعاد وعيي إلى سابقه.
لقد فهمت أنّي وقعت أرضاً، فأنا لا أحتمل الكِمامة، فبدونها أنا أُصاب بالدوخان ودُوَار الشوارع وأفقد تركيزي، فكيف وأنا مُنحشرٌ داخلها أتنفس "أُكسوجينًا" ليخرج على شكل ولون وطعم ثاني أكسيد الكربون، وأبقى أسحبه مُرغَمًا مرات ومرات إلى رِئتَيّ الاثنتين طوال نهاري وربما في ليلي أيضاً خشية من مخالفة مالية كبيرة من رَجُلٍ برتبة رسمية ودفتر مخالفات مُكتنز الأوراق، وراتبي التقاعدي لا يتجاوز ال300 دينار وبضعة فلسات "فقط"، "تُزيّنهُ" كحبات فراولة متناثرة على كتف تورتة!!!
لقد رَحمَني الله عز وجل من نهاية مأساوية كادت تكون مؤكدة...