الأنباط -
الناقد /محمد رمضان الجبور
في كتابه «حميد سعيد… سؤال الذات سؤال القصيدة»، يخطو عِذاب الركابي خطوة جديدة في فضاء النقد العربي، خطوة لا تُشبه السائد ولا تكتفي بأن تكون قراءة خارجية لتجربة شاعر كبير، بل تذهب إلى الأعماق، إلى النقطة التي تتماس فيها الذات مع لغتها، ويتحوّل فيها الشاعر إلى كيان من أسئلة وذكريات وحنين، وإلى لحظة الكتابة نفسها وهي تُضيء ثم تُطفئ ثم تعود لتشتعل من جديد. هذا كتاب يُقرأ كما تُقرأ القصيدة: بإحساس يقظ، وبعين تستقبل ما وراء الكلمات، لا ما على سطحها.
منذ الصفحات الأولى، يكشف الركابي أنّ مشروعه ليس تقديم عرض تقريري لأعمال حميد سعيد، بل الدخول إلى "المعمل الداخلي” الذي تتشكّل فيه القصيدة. فالشاعر، كما يراه، لا يكتب نصاً وإنما يكتب حياة؛ كل كلمة هي أثر من أثر الروح، وكل بيتٍ هو محاولة للقبض على لحظة تنفلت، أو على ظلّ كان يجب ألّا يمضي. لذلك تتقدّم لغة الركابي هنا كما لو أنّها تضاهي لغة القصيدة نفسها: مشحونة، لامعة، تتقاطع فيها الصورة بالتأمل، والسرد بالبوح، والفكرة بالنبض.
ينظر الكاتب إلى حميد سعيد بوصفه شاعراً يتجاوز حدود "التقنية الشعرية” إلى ما يسميه "الحالة الوجودية للقصيدة”. فالقصيدة عند سعيد ليست شكلاً لغوياً، ولا مشروعاً معرفياً محضاً، بل هي نوع من الكهرباء الداخلية التي تسري في الكلمات، وتحوّلها إلى هواءٍ يصلح للتنفس، أو إلى ضوءٍ يضع العالم في ميزان آخر. هنا يلتقط الركابي تلك الومضة العابرة التي تجعل شعر حميد سعيد، على امتداد أكثر من نصف قرن، مشروع حياة لا مشروع كتابة فقط.
ولعلّ أبرز ما يضيئه الكتاب هو حضور بغداد في شعر حميد سعيد. ليست بغداد مدينة فحسب، بل ذاكرة تجدد نفسها، وأمّ تتلفّت حولها بحثاً عن أبنائها، وامرأة تتخفى خلف ستائر الشعر، وحلمٌ يتشظى ثم يعيد لملمة شظاياه. كل قصيدة عن بغداد، كما يقرأها الركابي، محاولة للمقاومة، للتماسك أمام الانكسار، للوقوف في وجه الخراب الذي يطال المكان كما يطال الروح. وهذا التصوير يجعل القارئ يدرك أن الشاعر يكتب عن مدينة تسكنه أكثر مما يسكنها، مدينة تُعيد خلقه في كل مرة يكتب فيها.
"تزورني بغداد في معتزلي /تُعيد لي /ما كان لي من طفولةٍ في لغتي /ما كنت قد أودعته في زمن العشق /من الأسرار / أكلما رأيتها تدخلني مضارب الريح / وتستقبلني قبيلة الأنهار "
ويتوقف الكتاب عند التطور البنائي للقصيدة لدى حميد سعيد، خصوصاً في ديوان «أولئك أصحابي» حيث يمتزج السرد بالشعر، ويتحوّل ضمير المتكلم إلى مرايا متعددة تعكس ذات الشاعر وذوات الآخرين في وقت واحد. في هذا المزج، يرى الركابي عبقرية الشاعر في قدرته على تحويل القصيدة إلى "مشهد”، وإلى نصّ يسمع القارئ موسيقاه كما يرى حركته.
أما «من أوراق الموريس كي»، فينظر إليه الركابي باعتباره ذروة النضج الفني؛ نصوصٌ تقوم على الرمز والإيحاء، تجمع التاريخ بالذات، والمنفى بالبحث عن بيت ضائع، وتنسج ما يسميه الناقد "لغة القرنفل”: لغة هادئة في ظاهرها، لكنها غائرة في مائها الداخلي، وتلامس الروح قبل العقل.
وفي قلب هذا كلّه، يعالج الكتاب سؤال العلاقة بين الذات والقصيدة: من يكتب من؟ وهل القصيدة امتداد للإنسان أم أن الإنسان نفسه يصبح امتداداً للقصيدة؟ هنا يقدّم الركابي أطروحته الأهم: حميد سعيد شاعر يكتب ذاته، والقصيدة تكتب الشاعر، وبينهما يتشكّل عالمٌ كامل من الأسئلة التي تخصّنا جميعاً، نحن القرّاء الذين نبحث في الشعر عمّا يشبه أرواحنا.
إنّ قيمة هذا الكتاب أنه لا يقرأ الشعر ببرود الباحث، بل بحرارة العارف المحب. عِذاب الركابي لا يشرح حميد سعيد، بل يصاحبه في دروب القصيدة، يستمع إلى موسيقاها الداخلية، ويكتب بلغة نقدية تتجاور مع اللغة الشعرية دون أن تطغى عليها. ولذلك فإن هذا العمل لا يقدّم نقداً فقط، بل يقدم نصاً موازياً، نصاً يضيء تجربة شاعر عربي كبير، ويضيف إلى النقد العربي كتاباً مكتوباً بشغف، ومُطعّماً بعمق، ومفتوحاً على أفق لا تحدّه حدود.
في ختام هذا العرض، يتبيّن أن كتاب «حميد سعيد… سؤال الذات سؤال القصيدة» ليس قراءة عابرة في تجربة شاعر عربي كبير، بل هو محاولة جادّة لإعادة فتح نوافذ الشعر على أسئلته الأولى: من أين تأتي القصيدة؟ وكيف تتشكّل هوية الشاعر من ضوء اللغة وجرح الذاكرة وتحوّلات الحياة؟ لقد قدّم عِذاب الركابي عملاً ينهض على وعي نقدي رصين، ولغة مشرّبة بحسّ جمالي، وقراءة تتقاطع فيها المعرفة بالتأمل، فيقف القارئ أمام نصّ نقدي يوازي الشعر في طاقته وإيحاءاته.
يخرج القارئ من هذا الكتاب وهو يشعر أن تجربة حميد سعيد لم تُقرأ فحسب، بل تمت ملامستها من الداخل؛ تم الإصغاء إلى نبضها، وتتبع خيوطها الخفية، والكشف عن تلك المنطقة التي يتقاطع فيها الشاعر مع العالم ويتشكّل فيها صوته الخاص. وهكذا يتحوّل الكتاب إلى إضافة حقيقية للمكتبة النقدية العربية، وإلى شهادة على قدرة النقد حين يُكتب بمحبة ومعرفة أن يمنح القصيدة حياةً إضافية، وأن يفتح باباً أوسع لفهم الشعر بوصفه سؤالاً لا ينتهي، ووهجاً يظل مشتعلاً ما بقي في اللغة متسع للدهشة.