الانباط – عبد الرحمن ابو حاكمة
تشهد الضفة الغربية المحتلة تصاعدًا خطيرًا في عنف المستوطنين، مما يكشف عن تحوله إلى موجات من العنف المنظم، حيث تتجذر هذه الظاهرة في بنية إرهابية تتجاوز الأفراد والجماعات لتصبح جزءًا أصيلًا من المنظومة الاستيطانية وتعتمد هذه الهجمات على إرث طويل من التنظيمات الإرهابية مثل "كاخ" و"غوش إيمونيم" و"فتيان التلال" وصولًا إلى تشكيلات أكثر تطرفًا كـ"جيش الرب" و"أمناء جبل الهيكل" وغيرها.
تمتد هذه البنية، وفقًا لمراقبين، بشكل سرطاني من أقصى شمال الضفة إلى جنوبها، وتتعمق داخل المجتمع الصهيوني الذي يزداد عنفًا وتطرفًا حيث لم تعد هذه الظاهرة التي تأسست على أفكار عنصرية وإرهابية، مقتصرة على الأفراد فقط، بل تشمل أيضًا تدمير الممتلكات والبنية التحتية، وتمثل المستوطنات أدوات لتكريس الاستيطان والتهويد، فمنذ احتلال الضفة عام 1967، وضعت حكومات الكيان أسسًا هندسية لابتلاع الأرض، بدءًا من "مشروع آلون" الذي منح غطاء عسكريًا وامنيا لسرقة الأراضي، ويقيم اليوم في الضفة أكثر من 700 ألف مستوطن داخل شبكات استيطانية تديرها التنظيمات الارهابية.
وفي الوقت الذي يصمت فيه العالم عن موجة التطرف الاستيطاني، لا يعبأ المستوطنون بالتحذيرات الدولية وتأكيدات الأمم المتحدة بأن الاستيطان غير قانوني، ووثقت تقارير فلسطينية و"إسرائيلية" أن "فتية التلال" وحديثًا انضم إليها "فتيات التلال"، الذين يطلق عليه "برابرة التلال"، وهم مراهقون مدرَّبون على العنف وحمل السلاح مدعومون من الجيش ومحميون من الشرطة وممولون من جمعيات ووزراء، يقيمون على قمم الجبال، ويهاجمون القرى ويحرقون المنازل ويسرقون الأراضي دون أي مساءلة، بدعم مباشر من جنود يحرسون مواقعهم ويؤمّنون توسعهم، خصوصًا في المناطق المصنفة C ، وسط تأكيد التقارير إلى تورط جهات حكومية وعسكرية في تشجيع هذه الاعتداءات، حيث يتلقون دعمًا سياسيًا من وزراء وأحزاب مثل بتسلئيل سموتريتس وايتمار بن غفير وبنيامين نتنياهو.
ووفق تحقيق موسع نشره ملحق "7 أيام" في صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن "وحوش التلال" انبثقت من داخل مجموعة "فتيان التلال"، بيد ان هذه الجماعة أكثر تنظيمًا، وأشد تطرفًا، وأقل خضوعًا لأي سلطة، وتستند إلى فكرة "أرض إسرائيل الكبرى" وترفض أي تسوية، وبحسب تقارير "إسرائيلية" فإن عناصر المجموعة يتنقلون بين البؤر الاستيطانية في مناطق مختلفة من الضفة، حيث يقيمون في خيام أو مبانٍ مؤقتة، ويشنّون هجماتهم غالبًا ليلًا مستهدفين الفلسطينيين وممتلكاتهم بالحرق والتخريب والاعتداء الجسدي، ووفق التقرير، فإن كل المجموعة من "وحوش التلال" تضم نحو 10 إلى 15 مستوطنًا.
و"فتيان التلال" الذين يسمون انفسهم حسب وسائل اعلام اسرائيلية "كتائب الملك داود" المعروفين لدى المؤسسة الامنية يعملون بشكل منظم، ولهم قيادات ميدانية معروفة مثل نيريا بن بازي وغيره كثير ومرجعيات سياسية واخرى دينية مثل الحاخام يتسحاق جينزبيرغ وغيره من الحاخامات الذين اوكل لهم وزير الجيش رعاية شؤونهم، غير انها لم تكتف بذلك بل تعمل على الدفع بقائمة للانتخابات التمهيدية، لتكون قوة سياسية داخل حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، للتأثير اكثر على صانعي القرار وخلق دعم واسع من أعضاء الكنيست لهم، وجاء في بيان وزّعوه في البؤر الاستيطانية وعلى مستوطني منطقة المجلس الاستيطاني بنيامين: "نحن في التلال نرشّح ممثلين لمركز الليكود، لسنوات طويلة ونحن نواجه تحديات من الداخل والخارج ونمنع بأجسادنا السيطرة الفلسطينية على أرضنا، ولكي نواصل النجاح، نحاول إدخال ممثلين من التلال إلى مركز الليكود، للتأثير على أعضاء الكنيست والوزراء" .
ويعود ظهور هذا التنظيم الارهابي إلى عام 1998 عندما أطلق وزير الأمن آنذاك آرييل شارون دعوة للمستوطنين للاستيلاء على تلال الضفة، ليرتدّ صدى الدعوة في صورة جرائم إرهاب على يد التنظيم الذي ظهر لأول مرة في حينه وسُمِّي شبيبة (أو) فتية التلال، وبعد 25 عاماً، استلهم وزير الأمن القومي بن غفير دعوة شارون تلك، وقال: "سارعوا إلى التلال واستوطنوا" وبمرور السنوات أصبح التنظيم يضم تياراً جارفاً من المستوطنين المتشددين.
وأقام التنظيم الذي يتخذ مركزاً رئيسياً في سلسلة الجبال الشرقية للضفة عشرات البؤر الاستيطانية في هذا المنطقة الواسعة والخصبة، على أنقاض نحو 20 قرية رعوية وتجمعاً بدوياً شكلت منذ الأزل هوية البادية الفلسطينية في المنطقة، قبل أن تتعرض لواحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي والتهجير الجماعي، ووفق التقارير يستولي التنظيم اليوم على مساحة شاسعة شرقيّ الضفة من خلال سلسلة بؤر استيطانية بالأراضي الزراعية التابعة لقرى شرقيّ رام الله وجنوب شرق نابلس.
ورغم سعى حكومة الاحتلال، بما في ذلك مسؤولون في الجيش والمجالس الاستيطانية، إلى التقليل من حجم الظاهرة، إلا أن سعيها لخوض انتخابات الليكود يعني طموحا في التمثيل السياسي داخل الحكومة، ولا تبدو خطوة كهذه، مجرد محاولة للحصول على مقعد أو موقع رمزي في الحزب صاحب النفوذ الأكبر، بل تحوّل جوهري في موقع التنظيم الإرهابي ودوره، و"كأن التيار الذي كان يقف في الظلال قرر أن يتجه نحو الضوء"، وأن يترجم عنفه إلى نفوذ سياسي ما يعني أن الحدود التي كانت تفصل بين العنف الاستيطاني المنفلت وبين السياسة الرسمية بدأت تتلاشى، ويرى مراقبون، أن محاولة برابرة المستوطنين دخول الليكود ليست مجرد حملة انتخابية، بل إعلان عن انتقال المشروع الاستيطاني المتطرف من السلاح إلى التشريع، ومن الهامش إلى مركز السلطة، في وقت تطرح فيه مشاريع الضم.
يذكر ان حرب الابادة الوحشية التي بدأها الاحتلال على غزة قبل اكثر من عامين الأبواب على نطاق أوسع، ركزت على حركة تجنيد واسعة للشباب اليهودي في دول اوروبية والولايات المتحدة للالتحاق بالخدمة في صفوف الجيش ومنظمات الارهاب في المستوطنات، عبر برامج تعليمية تسهم في دمجهم بما يسمى "منظومة قيم دولة الاحتلال"، بيد ان هذه البرامج تحتال على القيود التي تُفرض على أي إنسان أو مواطن في هذه البلدان وتجعله مسؤولا أمام القانون في ما يتعلق بخطاب الكراهية، أو انتهاك القوانين الإنسانية الدولية، وهي قيود تطبق بشكل كبير على العرب والمسلمين خصوصا بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، ولكن عندما يتعلق الأمر بـ"الكيان" فإن الحكومات الغربية لا تتخذ تدابير حقيقية لمراقبة مواطنيها الذين يلتحفون بجيش الإحتلال ويقاتلون معه في حرب الإبادة او بتشكيلات عسكرية وشبه عسكرية تشارك المستوطنين عنفهم وارهابهم.
ومن ابرز هذه البرامج "مخينا" المخصص للطلاب اليهود في العالم، والذين يُعرض عليهم الالتحاق ببرنامج غالبا ما يكون في المستوطنات، حيث يتم إعدادهم أيديولوجيا مع تدريب شبه عسكري قبل ارسالهم إلى المستوطنات، وتشكل حركة "بني عكيفا" أحد الأمثلة على ذلك وهي شبابية صهيونية دينية تعمل في اكثر من اربعين دولة، حيث تعلن على موقعها الإلكتروني باللغة الإنكليزية عن برنامج "محينا عولاميت" الموجه للطلاب في أمريكا الشمالية، وأوروبا، وأمريكا اللاتينية ويعرّف الموقع "مخينا عولاميت" بأنه برنامج لسنة بعد التخرج وقبل الالتحاق بالجامعة، ومدته تسعة أشهر ومخصص لخريجي المدارس الثانوية اليهود من أنحاء العالم و"يقدم مزيجا من التدريب على القيادة، والتجارب، والتعليم الصهيوني، واستكشاف "إسرائيل" ويشمل التعلم الديني وأسلوب الحياة، وخدمة المجتمع، ومحبة "إسرائيل"، واللياقة البدنية والإعداد العسكري، وتعلم العبرية، والهوية والشعب اليهودي، والندوات والرحلات كما يشمل قضاء أسبوع في مستوطنات غوش عتصيون جنوب القدس، وفي الأشهر التالية أسبوع "مع الجيش"، و"برامج تطوعية" في الضفة وغيرها.
ومن القائمين على "مخينا عولاميت" يظهر اسم الحاخام آري هابير كأحد منسقي البرامج ويبدو من صفحته على فيسبوك أنه يعيش في مستوطنة "إفرات" جنوب بيت لحم، ويُعرف بآرائه المتطرفة المؤيدة لحرب الإبادة في غزة، في الوقت نفسه هناك علاقة مباشرة بين قيادة المعاهد الدينية والحاخامات البارزين في الحركة، مثل دوف ليئور من كريات أربع، وغينزبورغ من يتسهار، وإسحاق شابيرا، وجميعهم يعزّزون العقلية الأيديولوجية، ويوسّعون توزيع المواد الدينية المتطرفة.
وفيما تكشف استطلاعات الرأي "الإسرائيلية" الحديثة ان المجتمع "الإسرائيلي" يعيش أزمة تطرف غير مسبوقة، ونزعة واضحة لتبرير العنف ضد الفلسطينيين، وانزياحا حاد نحو الفاشية الدينية والقومية، وارتفاع القبول الشعبي لسياسات القمع والتوسع، يرى خبراء أن هذه التحولات ليست طارئة، بل امتداد لفلسفة عنف زرعتها الحركة الصهيونية تاريخيًا، بدءًا من بيغن وبن غوريون وصولًا إلى نتنياهو الذي – بحسب المفكر اليهودي نورمان فنكلستين – يعكس "الوجه الحقيقي والمعبر الصحيح عن المجتمع الصهيوني"
ويشبر الخبراء ان ما يحدث في الضفة تحديدا ليس أحداثًا عابرة بل تعبير حقيقي عن الفلسفة الصهيونية القائمة على ان "العنفٌ هو شرط الوجود"، وهي فلسفة تمتد أيضًا وتعشش في كل البنى التحتية والفوقية في المجتمع الصهيوني المدجج بكم هائل لا حصر له من أدبيات وثقافة القتل والدم والنار والهدم والتدمير والاقتلاع والترحيل..
وفي ظل تفاقم الإرهاب الاستيطاني، تبرز تساؤلات خطيرة حول قدرة العالم على مواجهة مجموعات استيطانية تتحرك بمنطق "الكوكلوكس كلان" وتستهدف الفلسطينيين بالقتل والحرق والتهجير، بينما لا تزال الأمم المتحدة تعتبر الاستيطان "غير قانوني" ويقوّض أي أفق للحل.