الأنباط -
الأنباط -د. عبدالله الطوالبة
تتأمل خارطة العالم بعيون الحاضر وتحولاته وبشروط التقدم ومعاييره، فتجد ان التداول السلمي للسلطة أصبح صفة غالبة، إلا في بلداننا العربية.
يبدو العالم العربي كأنه جزيرة تحيط نفسها بحصن منيع ضد "عدوى" الديمقراطية، ولا تتردد باللجوء إلى ترسانتها من الثقافة القروسطية، لمنع اقتراب التحول الديمقراطي من أسوارها.
ما يزال الاستبداد نموذجاً سائداً لنظم الحكم العربية بالرغم من انحساره، خلال العقود الأربعة الأخيرة، لصالح نُظمٍ ديمقراطية. كأن العرب لم يُخلقوا للديمقراطية، ولا الديمقراطية خُلِقت لهم.
شعوب أميركا اللاتينية تجاوزت أنظمة ديكتاتورية، معروفة بشراستها وهمجيتها. دول آسيا غير العربية جعلت من تنوعها الإثني والثقافي والديني، بيئة قابلة للإصلاح الديمقراطي أو على الأقل التوافق الوطني بشأن تداول السلطة السياسية. أفريقيا غير العربية، تشهد تحولات ديمقراطية مهمة. إلا العرب، فما يزال مبدأ المغالبة وتفرعاته هو السائد، "من قويت شوكته وجبت طاعته".
منذ نشوء الدولة في بلاد العرب، كان تاريخنا السياسي وما يزال محكوماً بثلاث كلمات: الغلبة والقوة والعصبية. لذا لم يعرف هذا التاريخ، في الماضي كما في الحاضر، أسلوباً لنقل السلطة السياسية سوى الإنقلاب أو التوريث.
هنا، أظننا أشرنا إلى السبب الرئيس لأزمة واقعنا العربي في هذه المرحلة. فالإستبداد المتراكم عبر العصور، استصحب الفساد والخراب والتخلف. وفي المقابل، فإن التطور بحكم الفرد المطلق وبالديكتاتورية والإستبداد، غير ممكن بمعايير الحاضر.
الإستبداد مهما استخدم من اكسسوارات التجميل واقنعة الإخفاء، فإنه يسير دائماً عكس حركة التاريخ، لأنه نقيض حرية الإنسان. وعندما يفقد الإنسان حريته، فإنما تُسلب إنسانيته.
الإستبداد لا يستمر إلا بالفساد وتزييف الوعي، ولا يستتب له الأمر إلا بقمع الإنسان وقهره. لذا، من طبيعي أمره محاصرة ارادة التفكير الحر الواعي وشل القدرات الإبداعية والحيلولة دون التفكير العلمي الممنهج. كما أن الإستبداد السياسي، يستولد الإستبداد الاجتماعي والثقافي والفكري. والذي نراه، ان أفاعيل الإستبداد وفظاعاته تتحدث عن نفسها بنفسها في واقعنا العربي.
فعلى الرغم من أن الأرض العربية تحوي ثروات تؤهل سكانها لمعيشة رغيدة وحياة هانئة ونهضة شاملة، إلا أن الحقائق الفاقعة بمرارتها تقول العكس. نسب الفقر والبطالة، هي الأعلى في العالم. التخلف العلمي والتقني والتنموي، لا نظنه بحاجة إلى أدلة. يضاف إلى ذلك انتشار الفكر الديني الخرافي الظلامي، وتفشي الخزعبلات والأوهام. وأخيراً، الحروب الأهلية في العديد من بلداننا، وما جرته من ويلات ودمار وخراب. وفي واقع الأمر، فإن بلداننا مأزومة وتعيش حالة حرب أهلية، إما مشتعلة أو صامتة.
قد يسارع أحد ما إلى الإستدراك: لكن انتخابات منتظمة تُجرى في معظم بلداننا. وفي الرد نقول، إن الإنتخابات نيابية كانت أم رئاسية، في بلداننا العربية، لا تعني تحولاً ديمقراطياً حقيقياً، ما دامت السلطة السياسية ثابتة في أيدي النظم الحاكمة. إنها انتخابات ديكورية منضبطة بمسطرة النخب الحاكمة، يُسمح باجرائها حتى بمشاركة قوى معارضة هنا وهناك، ما لم تُشكل خطراً على سلطات النظم الحاكمة. وأنَّى لأنظمة أمنية بوليسية، أن تسمح بإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
ولقد بات معلوماً الضغط على قوى سياسية او نشطاء بعينهم لعدم الترشح للإنتخابات. أما اعترافات مسؤولين سابقين وحاليين بالتزوير، فما تزال أحبارها ساخنة وأصداؤها تتردد.
ولا شك أن النظم مستفيدة من الانتخابات الديكورية، على أكثر من صعيد. فهي إحدى وسائلها، لإحتواء المعارضة وكشف أوراق قوتها ونقاط ضعفها، بالإضافة إلى اضعافها من خلال تبديد الثقة بها وإغراء بعض رموزها بالمناصب لبث الإنقسامات داخلها. وتستخدم النظم الحاكمة الانتخابات غطاء يخفي عورات الإستبداد في القرن الحادي والعشرين. ومنها من يوظفها للحصول على مساعدات من الدول المانحة!
تأسيساً على ما تقدم، يفرض نفسه السؤال: هل نحن العرب ذات خصوصية مقاومة للتغيير، والإستبداد قدرنا؟!
نعتقد ان سؤالاً كهذا لا يمكن الإجابة عليه بنعم أو لا، على الأقل من منطلق ان الديمقراطية ثقافة والإستبداد أيضاً ثقافة.
لنعترف بداية أن الدين يحتل مكانة مركزية في ثقافتنا، أي أنها ثقافة نصية، تتمحور حول النص الديني. الدين مطلق ويقين، والديمقراطية نسبي متحرك يتطور مع حركة الحياة. ولا ريب في أن التعامل مع النسبي بمعايير المطلق الثابت، يهيء أرضية تنفُر من الأول، بل وتعاديه. الثقافة الدينية ترفض الفصل بين الدين والسياسة، وتعطي أهمية كبرى للسمع والطاعة، وتؤسس لعلاقات رأسية في المجتمع بين الحاكم والمحكوم والمعلم والمتعلم والرجل والمرأة والدولة والمواطن. وكلها تؤسس للهيمنة والتبعية في الحياة السياسية والاجتماعية. وبالتالي، فإنها آفات طاردة للديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. كما أن الثقافة النصية بطبيعي أمرها راكدة، تقوم على التكرار والإجترار وعدم الخروج على النص. وهي بذلك منهج مناسب للإستبداد، لجهة توظيف الدين في مقاومة التغيير.
ظل الواقع العربي في حالة ركود تاريخي ولم يعرف فكرة الديمقراطية أو الدستور أو العقد الإجتماعي، حتى القرن التاسع عشر. فقد شهدت مصر أول تجربة دستورية عربية عام 1881. في المقابل، وعلى سبيل المقارنة، عرفت أوروبا الماغنا كارتا منذ عام 1215 ميلادية، والإصلاح الديني في القرن السادس عشر، والثورات البرجوازية في القرنين السابع والثامن عشر. ومن ثمار هذه الأخيرة، المجتمعات الصناعية. وكلها تحولات، كانت لها اسهاماتها التاريخية في تطور الديمقراطية ومأسستها. لذا، من الطبيعي أن يكون الاحتكاك بالحضارة الغربية محركاً لبروز سؤال النهضة، حيث التفت مفكرون في مقدمهم عبدالرحمن الكواكبي، إلى أن الإستبداد هو سبب تخلف العرب والمسلمين. الإستبداد لا يهبط من السماء، بل يمتح من بيئة ثقافية، كما سبق أن أشرنا. في السياق، نذكر على سبيل المثال لا الحصر أن لا وجود للحرية في موروثنا الثقافي بمعنى الحقوق السياسية. فقد استُخدِم لفظ الحر لتمييزه عن المملوك (فتحرير رقبة) (النساء: 92)، بمعنى أن الحرية رفع للرق وإزالته. وكان رفاعة الطهطاوي أول من حاول إدخال كلمة الحرية في القاموس السياسي العربي الإسلامي. ويلفت النظر فهمه للحرية، كما ورد في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، إذ يقول :" ما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، ذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة". وللتذكير، فإن غاية ما توصل اليه فكر النهضة بخصوص ما نحن بصدده، كانت فكرة المستبد العادل، التي طرحها محمد عبده.
وحتى اليوم، ما يزال مصطلحا الديمقراطية والحرية بحاجة إلى مزيد من الحوار والنقاش في مجتمعاتنا، خاصة وأن هناك أصواتاً عالية ترى في الأولى" بدعة غربية" وتنظر إلى الثانية فقط من خلال ربطها بالإباحية.
لكن ومع ذلك كلِّه، لا يوجد ثقافة ديمقراطية بالكامل وثقافة استبدادية خالصة. ففي كل ثقافة، هناك ما يمكن البناء عليه لصالح الديمقراطية أو توظيفه في خدمة الإستبداد. وهو ما ينسحب على ثقافتنا العربية، التي لا يمكن استثناؤها من هذه القاعدة.
كما أن الديمقراطية، باعتبارها أفضل ما تم التوصل اليه لتنظيم شؤون الإجتماع الإنساني، تتطور بالتطبيق والممارسة وبما يتناسب مع الخصوصيات الثقافية للشعوب والأمم.
وفي عصر الفضاء المفتوح وتدفق المعلومات العابرة للحدود من دون حواجز وحدود، يزداد الوعي وتتعزز القناعة بأن الديمقراطية أحد أهم عناوين الحاضر وشروط التقدم، وخاصة بالنسبة لضحايا الاستبداد، مثل شعوبنا العربية.
لقد تأكد خلال السنوات العشر الأخيرة، أن العقل السياسي العربي يقف أمام تحدي الديمقراطية وجهاً لوجه. الإستبداد العربي تعرى، وأصبح عبئاً على بلداننا وعلى الدول الكبرى التي تحميه خدمة لمصالحها. ولا بديل سوى طريق الديمقراطية، كخيار وجودي ونهضوي. فالحياة لا يمكن أن تستثني العرب من ثوابتها وتحولاتها، والإستبداد ليس قدراً، خاصة وأنه كما قلنا، يقع دائماً في الجانب الخاطيء من التاريخ.