د. هدى درويش
أستاذ الأديان – جامعة الزقازيق
باعتبار تخصصي هو علم مقارنة الأديان الذي يتوخى الموضوعية في التعامل والبحث عن القيم المشتركة التي تقرها الأديان، ومن خلال رسالتي في الدعوة إلى التسامح ونشر وتحقيق السلام العالمي آثرت الحديث عن التوجه الحالي للسلام بين الدول من حيث أهدافه وأغراضه، حيث تشغل قضية السلام بين أقطار عربية من جانب والكيان الإسرائيلي من جانب آخر أهمية على كافة المستويات المحلية والعالمية، وقد استرعى الانتباه أن هذه الظاهرة باتت واقعا يفرض نفسه على عالمنا العربي في الآونة الأخيرة. وقد تضاربت الآراء والأفكار بين مشجع ورافض لها باعتبارها تطبيعا يناقض تاريخ العلاقات في المنطقة وتاريخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
وإذا أردنا أن تكون الموضوعية سبيلا لنا، فلابد من العودة إلى تاريخ العلاقات اليهودية الإسلامية منذ ظهور الإسلام، فحقيقة العيش السلمى الآمن نجدها ماثلة أمامنا في تعاملات رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة إلى المدينة حيث ضم مجتمع المدينة قبائل مختلفة من اليهود، فأرسى فيه صلى الله عليه وسلم قيم المواطنة، وكتب وثيقة المدينة أعظم ما عرفته البشرية من دساتير وقوانين لمجتمع متعدد الأديان، يقوم على أسس العيش المشترك بين أفراده جميعا يتمتعون بحقوق المواطنة على أساس المساواة، إلى جانب منحهم جميعا حق الحماية على النفس، وما يتبعها من مال وأهل وعرض.
وقد ظلت العلاقة بين النبي صلى الله عليه وسلم و اليهود تسير على هذا المضمار من المعاملة الطيبة وحسن المعاشرة على الرغم من الخلاف الذي حدث في غزوة الأحزاب، وحتى عند وفاته صلى الله عليه وسلم كان درعه مرهونا عند يهودي، فكان صلى الله عليه وسلم يقترض منهم نقودًا ويرهنهم متاعًا، وهناك الكثير من المواقف في تعاملاته صلى الله عليه وسلم مع أهل الديانات الأخرى لا يمكن حصرها، وذلك كله كان تعليمًا وتثبيتًا عمليا لما يدعو إليه الإسلام من تعايش سلمي.
وتؤكد الأديان جميعا على قيم ومبادئ مشتركة تعد ناموسا سرمديا أبديا اجتمع عليه سائر الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا على الفطرة وتبليغ رسالات الله عز وجل.
والسلام هو مبدأ عام مشترك بين الأديان، ويكفينا القول أن تحية أتباع الأديان جميعا هي السلام وهو من أسماء الله الواردة في نصوص الرسالات السماوية الثلاث.
وخلال السنوات الماضية مرت بالمنطقة العربية أنواع مختلفة من حروب وصراعات عانت الشعوب ويلاتها من إرهاب وتدمير وسفك للدماء، فهل آن الأوان أن تعظم الدول قيم السلام التي تحث عليها الرسالات المنزلة من الخالق عز وجل ، وتتجه نحو السلام والعيش الآمن بديلا عن الصراع والقتال الذي لا يورث إلا الفقر والمرض والخراب.
لقد طالعتنا في الآونة الأخيرة توجهات دول في منطقة الشرق الأوسط تسعى نحو السلام من خلال عدد من الدول العربية والكيان الإسرائيلي، وأُطلق على بعض هذه الاتفاقات مصطلح (الاتفاق الإبراهيمي) باعتبار المشترك الديني الذي يمثله سيدنا إبراهيم عليه السلام كأب لجميع الأنبياء، غير أن هذا المصطلح تناوله البعض بالنقد حيث اعتبروه مسمى موظفا سياسيا لتمرير تلك الاتفاقيات وإضفاء نوع من القدسية عليها.
وإذا كان هذا المصطلح في حد ذاته يملك قدسية باعتبار مرجعيته إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي نستدعيه في كل صلاة ونطلب من الله عز وجل أن يصلي على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد كما صلى على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم، وأن يبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما بارك على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم. غير أن جدوى هذه الاتفاقيات السلمية تتوقف على الإجراءات التالية لها، بما في ذلك السير قدما في حل القضية الفلسطينية تمهيدا للسلام الشامل في المنطقة برمتها.
فالأمل يراودنا الآن في توحد الشعب الفلسطيني وتوحيد جبهته من الانقسام الحادث حاليا، وأن يكون قد آن الأوان لهذا الشعب الذي عاش معاناة طويلة ومتواصلة طيلة سبعة عقود -ولا يزال- أن يكون له الحق في حياة آمنة ومستقرة.
وإن دواعي السلام لابد أن تتهيأ للجميع دون استثناء أحد، فالشعب الفلسطيني الذي يبلغ تعداده ما يقارب اثني عشر مليونا لا يزال مشتتا مهمشا ومطاردا.
وعليه فإننا ندعو كل الأطراف الداعية إلى السلام الوقوف بجانب هذا الشعب المهضوم حقه وأن تتبنى هذه الدول فتح المجال لحوار جاد مع الواقعية الجديدة للسلام الحالي يحمل معه العدل والأمان لكافة شعوب العالم.
لقد جاء إعلان الاتفاق الإبراهيمي بين الإمارات والبحرين وإسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية بمبادئ سامية وأهداف إنسانية نبيلة فكان نصه: نحن الموقعون أدناه، ندرك أهمية الحفاظ على السلام وتعزيزه في الشرق الأوسط والعالم على أساس التفاهم المتبادل والتعايش، وكذلك احترام كرامة الإنسان وحريته، بما في ذلك الحرية الدينية، كما نشجع الجهود المبذولة لتعزيز الحوار عبر الأديان والثقافات للنهوض بثقافة السلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث والبشرية جمعاء، ونؤمن بأن أفضل طريقة لمواجهة التحديات هي من خلال التعاون والحوار، وأن تطوير العلاقات الودية بين الدول يعزز من مصالح السلام الدائم في الشرق الأوسط والعالم، كذلك نسعى إلى التسامح واحترام الأشخاص من أجل جعل هذا العالم مكانًا ينعم فيه الجميع بالحياة الكريمة والأمل، بغض النظر عن عرقهم وعقيدتهم أو انتمائهم الإثني.
ونحن بالتالي نؤيد وندعم هذا البيان الذي يدعو لاحترام كرامة الإنسان وحقه في حياة كريمة، على أن يشمل كرامة وحقوق الشعب الفلسطيني حتى نهدأ بالا ونحيا في سلام وأمان واستقرار على المبادئ والقيم الدينية التي تقرها الديانات الثلاث لخير الإنسانية.