الأنباط -
الأنباط -أميركا و"الأخوان" وبريد هيلاري!
د. عبدالله الطوالبة
أحدثت تسريبات محتويات البريد الإلكتروني لوزيرة خارجية أميركا في عهد الرئيس أوباما، هيلاري كلينتون، زلزالاً سياسياً في بلاد العم سام، ترددت أصداؤه في منطقتنا وما تزال. وهو أمر طبيعي، بالنظر إلى مضامين الرسائل المسرَّبة ومصدرها، بالإضافة إلى أنها كشفت عورات وأزاحت الأقنعة عن سوءات.
وعن أسباب الزلزال السياسي الناتج عن التسريبات، فأولها أميركي، يتعلق بالإنتحابات الرئاسية المحتدمة الآن.
فقد أصبح معلوماً ان السيدة هيلاري كانت تستقبل الرسائل الخاصة بعملها وزيرة للخارجية على سيرفر (خادم) خاص بها، أي بريد إلكتروني شخصي، ولم تستخدم آنذاك البريد الإلكتروني الخاص بالإدارة الأميركية. وبعد أن افتضح الأمر وشاع، طلب منها مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) تسليمه الرسائل المتعلقة بعملها كوزيرة للخارجية الأميركية. ولم يكن بمقدورها، إلا الإنصياع لهذا الطلب.
يصل عدد الرسائل إلى حوالي 55 الف رسالة، تم تسريب 35 ألفاً منها. من هنا وجد ترامب مدخلاً لقنص صيد ثمين، يشهره في معركته الانتخابية. استند ساكن البيت الأبيض إلى قانون تبادل المعلومات، وطلب من وزير خارجيته بومبيو أن يكشف الرسائل، بهدف التأثير على الناخب الأميركي. ولعلّ أول ما يتغيَّاه ترامب، احراج جو بايدن، نائب أوباما وخصمه في الإنتخابات الرئاسية حالياً. يريد ترامب ان يقول للأميركيين، من رسائل هيلاري ندين الديمقراطيين بدعمهم للإرهابيين، خلال ما يُعرف ب"الربيع العربي". وليس بخاف مقصود ترامب بالإرهابيين حسب القاموس الأميركي، وصفحاته الترامبية بخاصة. ويرمي ترامب أيضاً إلى القول، إن سياسات إدارة أوباما ونائبه بايدن ووزيرة خارجيته هيلاري، تأدت إلى تأجيج الفوضى في العالم العربي، وبالتالي الإضرار بالمصالح الأميركية ومقتل مواطنين أميركيين، منهم سفير الولايات المتحدة آنذاك في ليبيا. وقد يكون في ذهن ترامب توجيه رسالة إلى الأميركيين وإلى البلدان العربية، فحواها أن فوز بايدن بأهم منصب في العالم، سيعقبه اندلاع الفوضى مجددا في العالم العربي.
ولكن ما الذي وجده ترامب في رسائل هيلاري ليوظفه في حملته الإنتخابية، ويفضح ما يرى فيه مستور الديمقراطيين؟!
الإجابة، تستدعي وقفة مع مضامين رسائل هيلاري بالقدر الذي يسمح به مقال. هنا ننتقل إلى ما نعتقد انه السبب الثاني لعاصفة النقاش، التي اعقبت التسريبات.
اذا وضعنا جانباً الرسائل البروتوكولية المتعلقة بترتيب اجتماعات وتنظيم لقاءات وهي كثيرة، فإن أحداث الحراكات الشعبية في دول عربية عدة اعتباراً من عام 2011 وتداعياتها والعلاقة بين أميركا والأخوان المسلمين، تشغل المساحة الأكبر في رسائل هيلاري، وهو ما يهمنا. وهناك رسائل تخص الصين وروسيا وايران.
لم تقُل هيلاري في أيٍّ من رسائلها ان أميركا صنعت الحراكات الجماهيرية، لتحقيق أهداف سياسية. ولا نظن ان بمقدور سياسي يحترم العقل ويقدِّر شعبه القول بذلك. ففي إحدى رسائلها تقول هيلاري بصيغة تهكمية:" أميركا لا تحرك عرائس في الشرق الأوسط كما تشتهي، ولا تحقق أي نتائج ترغب بها هناك". وهي بذلك ترد على ما تقول انه انطباع سائد لدى شعوب المنطقة، بأن أميركا تفعل ما تريد، كما لو أنها قدر لا راد له. والأهم من رأي هيلاري بهذا الخصوص، دروس التاريخ القريب والبعيد، التي تعلمنا أن أسباب أي حراك جماهيري، يجب البحث عنها في الواقع وليس خارجه. ولا يُعقل أن الملايين، الذين خرجوا إلى الساحات والميادين عملاء أو دمىً تحركهم أصابع خفية.
لكن السياق العام للرسائل، يشير إلى أن أميركا سارعت إلى الإستثمار في الأحداث وتداعياتها، بمنظور مصالحها بالطبع.
حسب الرسائل، زارت هيلاري مصر بعد وصول رئيس "اخواني" إلى سدة الحكم. وخلال لقائهما، أكدت دعمها للتغيير السلمي للسلطة. والتقت المشير حسين طنطاوي، رئيس المجلس العسكري آنذاك، ودعت إلى عودة الجيش لثكناته. وهو ما يمكن تفسيره على أنه اعتراف أميركي بحكم "الأخوان" في مصر، والاستعداد للتعامل معهم ودعمهم. أما مرسي، فطلب منها اعترافاً دولياً بالنظام الجديد والحيلولة دون عزله دولياً. وطلب أيضاً، دعم إنشاء مؤسسة إعلامية أخوانية بتمويل قطري يصل إلى مئة مليون دولار، بحيث تضم محطة فضائية وصحيفة يومية. وتقول إحدى رسائل هيلاري، انها عرضت على الحُكم الأخواني إعادة هيكلة وزارة الداخلية المصرية وإرسال ضباط أميركيين لتسهيل المهمة. وكشفت الرسائل أن "الأخوان" استغلوا الأحداث الإرهابية في سيناء، لغربلة الأجهزة الأمنية وقيادات الجيش وتعيين مؤيديهم. وعلى أثر ذلك، بدأت الحساسيات بين المؤسسة العسكرية في مصر وسلطة "الأخوان". ويلفت النظر بشكل خاص حسب رسائل هيلاري، أن فريقها كان يستخدم لقب "ولدنا في ليبيا"، عند الحديث عن عبدالحكيم بلحاج مؤسس الجماعة الإسلامية الليبية المرتبطة بتنظيم القاعدة ويصفه بالجنرال.
ولرسم أبرز ملامح سياسة إدارة أوباما تجاه الحراكات الجماهيرية، نرى من الضروري استحضار ما يسمى الأمر التنفيذي للرئيس باراك أوباما المتعلق بإصلاحات الشرق الأوسط".
بتقدير أوباما، فإن الشعوب العربية ساخطة على الأميركيين، لأنهم يفرضون عليها أنظمة لا تحبها. وكانت الإنتفاضات الشعبية، فرصة للتخلص من أنظمة شاخت وهرمت وأخرى غير مرغوب ببقائها لأسباب سياسية. بعد اشتعال شرارة الأحداث في تونس وانتقالها كما النار في الهشيم إلى دول عربية عدة، بدأت أميركا أوباما البحث عن حامل سياسي للحراك الجماهيري العفوي، وارتأت أن "الأخوان" هم الأقدر على استلام الحكم في الدول المعنية، ولا مانع لديها من وصولهم إلى السلطة. أما مصدر الثقة بهؤلاء والإطمئنان إليهم، فكان مبنياً على امرين، أولهما، أن أي نظام سياسي ينتج عنهم، سوف يكون مشابهاً لنظام حزب العدالة والتنمية في تركيا. وثانيهما، تأكيدات" الأخوان" لمسؤولين أميركيين بالحفاظ على المصالح الأميركية محددة بتفاصيل تطرب لها الأذن الأميركية، وأهمها: المرور الآمن في قناة السويس، وتدفق النفط، وأمن إسرائيل، واستمرار نهج الاقتصاد الحر.
كانت إدارة أوباما على قناعة بأن المجتمعات العربية، لا بد وان تمر بحكم " الأخوان" للإنتقال إلى الديمقراطية. وقد أثبتت الأيام فشل ذلك الرهان، لأنه انبنى على قراءات خاطئة للأحداث واحتمالاتها. ونتج عن هذه القراءات مصائب ومآسٍ في العديد من البلدان العربية، وبالذات في سوريا واليمن وليبيا.
وعلى جري العادة في السياسات الأميركية، أدارت بلاد اليانكي ظهرها ل"الأخوان"، بعد أن خاب رهانها عليهم وفشل مشروعهم وتشرذم.
وبالعودة إلى رسائل هيلاري المسربة، نجد فيها ما يكفي للتثبت من قيام فضائية "الجزيرة" بمهمة دعم "الأخوان" وما خططوا لبلوغه بعد ركوبهم موجة الانتفاضات الشعبية. خلال زيارات عميدة الدبلوماسية الأميركية آنذاك، كانت هذه الفضائية محطة مهمة. وتكشف إحدى الرسائل عن زيارة تمت في 11أيار 2011، تم خلالها تناول خطط "الجزيرة" التعبوية لتغطية ما سيحدث. وفي السياق، يلفت النظر ان هذه الفضائية لم تنشر خبراً واحداً عن تسريبات رسائل هيلاري!
ونختم بالقول، إن كشف المستور في بريد السيدة هيلاري، يعني الكثير على صعيدي الفعل بحد ذاته والمضمون. لكن اكثر ما يهمنا في سياقات موضوعنا، ثلاثة أمور:
اولاً: واضح ان العقل السياسي العربي، بما في ذلك نسخته "الأخوانية"، ما يزال يعمل وكأننا نقبع في خمسينيات القرن الفارط، وليس في عصر الفضاء المفتوح.
ثانياً: أثبت "الأخوان" أنهم على أتم الاستعداد لسلوك الطريق النفعي البراغماتي ولا مشكلة لديهم بإتباع "التقية" السياسية، لبلوغ كرسي الحكم.
ثالثاً: يتشبث "الأخوان" برداء الطهورية، وينسبون لأنفسهم تمثيل الخيار الوطني الإستقلالي. ولطالما ألصقوا بمناوئيهم وخصومهم تهمة التعاون مع "أعداء الأمة". لكن بريد وزيرة خارجية أميركا في عهد رئيسها باراك حسين أوباما، السيدة هيلاري كلينتون، تسبب لهم بما يتعدى الإحراج إلى ما لا يستعصي على اللبيب من الإشارات دركه!