أسابيع قليلة ويتوجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع لممارسة حقهم في اختيار ممثليهم في مجلس النواب، ولن تمر أسابيع حتى تبدأ فئة تعودت الندب والشجب بوصف المجلس الجديد بأنه غير ممثل للمجتمع الأردني ناهيك عن أوصاف شتى وسمات عديدة يطبعون المجلس بها بعد كل قرار يصدر عنه، لأنه من الواضح تمامًا أن من تخلف عن المشاركة يريد مجلسًا مفصلًا وفق قناعات هذه المجموعة العدمية التي لا تشارك في الأحزاب أو مؤسسات المجتمع المدني أو الانتخابات، ولكنها تعودت الندب واللطم.
لن نختلف كثيرًا مع كافة منظري الفكر الديمقراطي في أن الكل يدعي الديمقراطية، والمستبدون يتحدثون عنها ربما بإبداع أكثر من غيرهم، ويصفون أنظمتهم السياسية بالمثالية، بل يكادون يقدمونها على أساس أنها المدينة الفاضلة، ولكن الحقيقة أن الديمقراطية المثالية لا زالت بالنسبة إلى الإنسانية حلمًا بعيد المنال، وربما يقود البحث فيها إلى نتيجة لم تعد تخفى على المتابع والمهتم، بل إنها تشكل مدخلًا لتحديد نقطة الخلاف الرئيسة بيننا وبين من يدعيها، فالغرب المدعي تبنيه للديمقراطية تبتعد المسافات بيننا وبينه، حيث أنَّ نقطة الخلاف الحقيقية هي في ميدان القيم ونظام الحكم معًا، فعندما نرفض الديمقراطية الغربية، فإن رفضنا مزدوج، فهو رفض لمنظومة القيم القائمة عليها الديمقراطية الليبرالية الغربية، وهو رفض أيضًا للمبدأ الرئيس فيها، وهو مبدأ فصل السلطات القسري وغير القانوني منهجًا وهو لصيق بالنظام السياسي الليبرالي الغربي، فلا محاسبة للسلطة القائمة هناك على أرض الواقع؛ لأن الأغلبية النيابية هي فعلًا الفئة الحاكمة المشكلة للحكومة، فكيف يكون الفصل الحقيقي للسلطات؟ من دون أنْ توجد سيادة للقانون أو رجوع منظم إلى إرادة الشعب، أو رقابة حقيقية ومحاسبة مع هذا المبدأ، أو أسلوب تنفيذي حقيقي يعبر عن إرادة الغالبية، والاستفتاءات أو الانتخابات في الوقت الذي تجري فيه وفق ضوابط تصادر حرية الشعب وإرادته وفقًا للمبدأ المثالي والقواعد الأنموذجية، ولكنها أشكال تحقق مساحات واضحة من الحريات، أما ديمقراطيات دول العالم الثاني فهي على الأغلب مشوهة، ولكن هل هي نهاية المطاف أم بداية الطريق للإصلاح؟.
إن المشاركة في التغيير ووضع الورقة في صندوق الانتخاب هما اللذان سيؤسسان للتغيير القادم، وإن النقوص والاستنكاف هي العدمية المطلقة والعقدة التأزيمية لأي نموذج يريد أن يرتقي ديمقراطيًّا للوصول إلى حالة أقرب للمثالية شريطة تناغم التشريع مع الأداء.
من المؤكد أن البشر كافة يؤكدون ضرورة تحقيق وتَنَسُّم الحريات بعد قرون من الظلم والاستلاب الذي عاشته البشرية، وبات لزامًا علينا كافة بذل مزيد من العمل والجهد المدروس للاستفادة من دروس الماضي؛ تجنبًا للانتكاسات القاسية التي حلت بالحرية عبر هذه المسيرة الطويلة، وللإفادة من الظروف الراهنة، التي شهدت تراجعًا غير مسبوق للرأسمالية والماركسية، واضمحلال الفلسفات القائمة عليها، وبات الواقع يسمح من جديد بالتفكير في حل آخر للأشكال الحالية من نظم سياسية مأزومة مترافقة وأزمات اجتماعية واقتصادية تشير إلى مستقبل مظلم للرأسمالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأكثر ظلامًا للماركسية الشمولية الكلاسيكية.
لكن القضية الرئيسة التي ما زالت تواجهنا جميعًا في هذا العالم هي في طبيعة الحل القادم وشكل النظام السياسي المرتقب، والأنموذج الحلم الذي سيشكل علامة فارقة في مستقبل الإنسانية جمعاء، وتضع هذه القضية مسؤولية بذل جهد مضاعف للملاءمة بين ما هو متغير في العصر وما يعد ثابتًا من حيث الفهم في أي فلسفة جديدة، ولكن هل تكون البداية معابد وصومع للتفكير دون فعل حقيقي بالتغيير على الأرض في كل ديمقراطية ناشئة وأولها الأردن بمشاركة جميع من يحق لهم التصويت كي يختاروا لاحقًا شكل منظومة التشريعات الناظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحاسبون حكوماتهم، ويراقبون أداءها بدل اللطميات المعهودة وحالة الندب والبكاء التي أصبحت ممجوجة ولا سيما مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت للبعض فضاءً واسعًا للمثالية النظرية واللطم المجنون.
ولا شك في أن جلالة الملك عبدالله الثاني تنبه مبكرًا إلى هذه الأزمة فانطلق مبدعًا للعمل على تجديد المفاهيم والقيم والمعاني للإبقاء على حالة الحضور في العصر, وعدم الاغتراب في فهم ربما آن الأوان لتجديده, والخروج به من منعطفه الضيق، فكانت الأوراق النقاشية خارطة طريق للنموذج المنشود، كما أعطى تصورًا متكاملًا للمشكل الاقتصادي والاجتماعي ليشكلا مع المشكل السياسي الحل النهائي للاستغلال والعبودية والقهر وغياب العدالة والحياة في مجتمع تسوده العدالة والشفافية والنزاهة والشراكة في أجواء الحرية وإرادة التغيير موحدة الهوى، فهل من إنهاء لعقدة المشاركة وبخاصة في فئتي المرأة والشباب لتنتهي حالة النكوص على الذات؟
يحدث هذا في الوقت الذي يشهد الخطاب العربي مزيدًا من الاختلاف بالرغم من أجواء المصالحة هنا أو هناك حول تفسير القضايا التي تواجهه، وحول كيفية صياغة رؤية منظمة قادرة على لفت الاهتمام وحيازة الدخول في الحياة السياسية على حد سواء، وكل ذلك يستدعي من المفكر المنصف أن يقول إننا إذا دعونا إلى نظام حكم ديمقراطي فيجب أن نفصل بينه وبين أي نموذج قائم لنصمم نموذجنا، ونبني مفهومًا مشتركًا للديمقراطية الحقيقة، وهي الديمقراطية التي نصممها نحن وليس غيرنا ووفق ظروفنا وحاجاتنا، وتنطلق من الحاجة الماسة إلى القيام بتقييم حقيقي نظري، ومن ثم عملي، ومقارنته بما يتم في أي نظام آخر لنكتشف بسهولة بالغة أنَّ أي نظام سياسي لا يحقق حرية أفراده وفق منظومتهم القيمية وشريعتهم لا يمكن أن يسمى مجتمعًا ديمقراطيًّا أو نظامًا سياسيًا عادلًا، لأنه إذا كانت للمجتمعات تفضيلاتها, فإن نظام الحكم الديمقراطي له بالضرورة مقوماته أيضًا, ولا بد لكل شعب يريد تفكيك الاستبداد ويدرك مفاسد استمرار حكم الفرد أو الحزب أو الطبقة أو البرلمان, من أن يجري مفكروه وقياداته السياسية مقاربات جوهرية تزيل التعارض بين ثوابت مجتمعهم ومقومات نظام الحكم الديمقراطي، بالتركيز على جوهر كل منهما، ومن ثم تحديد الخيار الديمقراطي الذي يحقق وحدة السلطة والحرية معًا.
إنَّ كل أنظمة الحكم في العالم, لم تنتقل إلى نُظم حكم ديمقراطية بعد، بالرغم من أنه توجد فروق جوهرية بينها من حيث الانفتاح السياسي ومستوى حرية التعبير وحكم القانون ونمو المجتمع السياسي والمجتمع المدني، حيث من الجدير التأكيد عليه أن ممارسة السلطة مسألة عملية، فإما أن يكون مصدره فرد أو قلة وتكون بذلك تسلط، أو يكون مصدرهَا كل الشعب وبذلك تكون سلطة عادلة.
من هنا فإن على القوى الأردنية التي تنشد التغيير أن تميز نفسها وأن تطرح نظام الحكم الديمقراطي الذي يحقق مصالحها، وينسجم والعهد والبيعة التي قطعها المجتمع للملك بوصفه نظام حكم وطني يسد ثغرات الاختراق الخارجي، ويفوّت الفرص على الراغبين في تفكيك الدول العربية وإضعاف مجتمعاتها، وهذا لن يتم إلا بالمشاركة. فليكن شعارنا لنشارك في التغيير، ونبتعد عن لطميات العدميين المتشائمين دومًا والمحبطين، ولتكن انتخابات 2020 شعارها نشارك لنغير ولا نترك الساحة خالية للناعقين على الخراب.