الأنباط -
الأنباط -"خدمة الجنود البواسل"، خدمة العلم، ترقى لأكثر من واجب وطني، هي تعزيز الارتباط بالهوية والأرض، وهي رسالة للشباب الأردني الواعي في زمن مثقل بالأزمات على غير صعيد، لتطل من جديد بعد انقطاع لسنوات، لتصقل طاقة الجيل الخلاقة وتستثمر بقدراته، وتعزز من قيم الانتماء والانضباطية والإخلاص والتضحية والبسالة والسلوك القويم، والمواطنة والإنتاجية، ناظرة الى تخطي ظلال البطالة القاتمة، ولو بالحد الأدنى، وفقا لمعنيين ومتخصصين.
وفي معرض حديث هؤلاء المتخصصين لوكالة الأنباء الأردنية (بترا) حول المعاني السامية لعودة خدمة العلم، أكدوا أن في عودتها عناقيد من العبر والدروس والرسائل الوطنية المعززة للاستقرار الأمني والاجتماعي، خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الذي وقع جله أو يكاد، أسيرا لتكنولوجيا التواصل الاجتماعي، منقادا دون أن يشعر لسياقات الفراغ والإدمان على الهواتف الذكية، سيما في زمن كورونا، وما أحدثته بتشعب تداعياتها من أزمات اقتصادية واجتماعية ونفسية. الى هذا يقول المؤرخ والباحث بكر خازر المجالي: تكمن أهمية خدمة العلم بالاستثمار في الشباب، والتأثير الإيجابي في سلوكياتهم، لأن الحياة العسكرية فيها صقل للشخصية، وتنشيط للحالة الذهنية والحركية، مشيرا إلى أن التدريب العسكري الذي قوامه الطاعة والإدراك، سيطبع شخصية المكلف بالتواضع والمثابرة والصبر والقدرة على التحمل، اذ تعبر الحياة العسكرية عن مجتمع تكافلي تعاوني منتج، وهذا يختلف عن حياة معظم الشباب حاليا الذين يقضون فترات طويلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وربما دون هدف يذكر.
واعتبر أن إعادة خدمة العلم وبأسلوب مختصر لنصف المدة السابقة من أجل مضاعفة عدد المشمولين في التدريب، وإناطة الموضوع بوزارة العمل بالتنسيق مع القوات المسلحة الأردنية، محاولة جيدة لامتصاص جزئي لآثار البطالة التي تزيد على 20بالمئة، ولا يمكن لخدمة العلم أن تكون حلا نهائيا للبطالة، ولكنها طريق على درب التأهيل والإعداد لمواجهة معترك لحياة، انطلاقا من واجب وطني للدفاع عن الأرض والمكتسبات ودرء المخاطر.
ويضيف المجالي، كان لخدمة العلم الذي صدر قانونها عام 1976ضروراتها لرفد القوات المسلحة الأردنية بالمجندين، فيما استمر العمل بهذه الخدمة الجليلة حتى عام 1991 الذي شهد قرار وقف العمل بها.
ويتابع: ومن ثم طرأ تعديل آخر على قانون خدمة العلم عام 2019، وهو تعديل شكلي تعلق بالمسميات لاختلافها عن عام 1986، منوها إلى أننا حين نعود إلى بدايات تطبيق ذلك القانون، نستذكر أن جلالة المغفور له بإذن الله، الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، رعى تخريج أول فوج من المكلفين بعد انتهاء التدريب بتاريخ 9 تشرين الثاني 1976، وألقى جلالته خطابا يعتبر وثيقة تتحدث عن أهداف خدمة العلم، وبدأ الخطاب بتسمية المكلفين "أيها الجنود البواسل"، بمعنى الارتقاء لمستوى الجندية للمكلف مكانة وواجبا.
ويضيف المجالي، ومما جاء في خطاب جلالته وقتذاك: "أن خدمة العلم هي إعلان عن أقصى أنواع الولاء للوطن، ففي خدمة العلم يلتزم الشباب الأردني بتقديم نفسه وحياته لوطنه إذا ما دعا الداعي، وفي خدمة العلم يتعلم أبناؤنا معاني الجندية، وهي معان يقوم عليها كل وطن وكل مجتمع، لأنها معاني الإخلاص والتضحية والانضباط والبسالة والعمل المخلص".
ويؤكد المجالي أن رسالة الجندية في هذه المرحلة لا تختلف بمعانيها عن المراحل السابقة، غير أنها جاءت في ظروف دقيقة بمثل ارتفاع نسبة البطالة، وتعدد اتجاهات أفكار الشباب الذين اصبحوا أسرى لمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة بإفرازاتها التي تبتعد في مفاصل بعينها عن قيمنا وعاداتنا، مشددا على أن خدمة العلم وعاء وطني ومدرسة لتأكيد الارتباط بالهوية والأرض، وإحداث تغيير في سلوكيات الشباب بتدعيم الإحساس بالمسؤولية وتعميق معاني الانتماء والانضباطية.
ويلفت، في السياق ذاته، إلى أننا نتطلع لخدمة العلم كمدرسة في الوطنية والتاريخ والإنتاجية أكثر من التركيز على فك وتركيب البندقية والرشاش، حيث نريد الجيل الواعي المؤهل والمتمتع بقدرات بدنية وذهنية، لأن الوطن اليوم يحتاج لأبنائه في مواجهة هذه الظروف الاستثنائية على غير سياق.
بدوره، يقول العميد المتقاعد الدكتور عديل الشرمان: لا يختلف اثنان على أهمية وضرورة خدمة العلم في إعداد جيل من الشباب أكثر قدرة على مواجهة مصاعب الحياة، ودورها في تعزيز منظومة القيم والأخلاق والانضباط لديهم وصقل هويتهم الوطنية، ومكانتها الرفيعة في منظومة الأمن الوطني والاجتماعي، وهي أبعد بكثير من النظر إليها كأحد الحلول المؤقتة لمشكلة البطالة، لأن ذلك تقليل وتحجيم لدورها الوطني الجامع.
ويتابع: هذا يقودنا بالتالي إلى استنتاج مفاده أن الهدف الأساس من خدمة العلم يتمثل بالفترة التدريبية في القوات المسلحة الأردنية والتي أن تشمل الجميع باستثناء فئات محددة جدا.
ويضيف الشرمان: ومن منظور أمني فإن خدمة العلم ستكون محطة فارقة وحلقة مهمة في تعزيز الأمن والاستقرار، وربما تسهم في الحد من الجريمة والانحرافات السلوكية لدى فئة من الشباب، مشيرا إلى أن خدمة العلم ستسهم في تصحيح مسارهم، خاصة إذا اشتملت برامجها على محاضرات في مجالات الوقاية من المخدرات والجرائم الإلكترونية ومهارات الاتصال وتعزيز ثقافة الحوار، وغير ذلك من أسس تدعيم بناء الشخصية.
ويلفت إلى أن خدمة العلم تهذب السلوك، مضيفا: "لا أشك في الوصول إلى هذا الهدف بالنظر إلى أن القوات المسلحة الأردنية تتميز باحترافيتها وانضباطها".
ويؤكد الشرمان أهمية أن تكون خدمة العلم إلزامية للجميع ضمن الفئة العمرية المحددة باستثناء شروط: الابن الوحيد لوالديه، والدراسة، والحالة الصحية، وأن يقطع الشاب العامل عمله لمدة ثلاثة أشهر، وهي فترة التدريب العسكري في أي وقت خلال المدة العمرية المحددة الممتدة لعدة سنوات، على أن يتم إلزام أرباب العمل باحتساب فترة التدريب إجازة غير مدفوعة الراتب، ويعود بعدها إلى نفس مكان عمله لاستكمال مسيرة التدريب المهني والممتدة لتسعة أشهر وضمن ترتيبات تشرف عليها وزارة العمل.
ومن وجهة نظره يقترح الشرمان أن يقطع المقيم إقامته في الخارج في أي وقت يراه مناسبا ومتاحا طيلة الفترة العمرية الممتدة لسنوات الخدمة بحيث تقتصر خدمة العلم لديه على فترة التدريب العسكري والتي يمكن خفضها في حال دعت الضرورة لذلك، وتأجيل خدمة العلم للطالب على مقاعد الدراسة حتى انتهاء المرحلة الجامعية الأولى على أن يلتحق بفترة التدريب العسكري من خدمة العلم بعد انتهاء هذه المرحلة الدراسية، وأن تقتصر خدمة العلم على ثلاثة أشهر فقط للراغبين بإكمال دراساتهم العليا، لافتا إلى أن هذه المدة القصيرة ولا تؤثر على سير الدراسة، وبذلك يتحقق الهدف المأمول منها.
من جهته، يقول أخصائي علم اجتماع الجريمة، الدكتور عامر العورتاني: إن التوجيهات الملكية السامية بإعادة تفعيل خدمة العَلَم، جاءت ضمن خطة توازن بين التدريب العسكري ومتطلبات سوق العمل وحال الشباب المعاصر، في اتفاق تشاركيّ بين المؤسسة العسكرية ووزارة العمل، حيث تعمل الأولى على تزويد الشباب ضمن الفئة المُكلّفة بالتدريب العسكري، والذي يضع الشابّ أمام تجربة رجولية جادّة يصقل خلالها جسده وشخصيته، ويختبر فيها قواعد الانضباط والالتزام ويعزز من معاني الانتماء، فيعي ماهية التحديات التي تواجه الوطن ويدرك ملامح هويته.
ويضيف، "فيما تعمل وزارة العمل على تنفيذ برنامج للتدريب المهني بالاتفاق مع مؤسسات القطاع الخاص، يحصل من خلالها الشابّ سواء أكان حاصلاً على مؤهل أكاديميّ أو من غير الحاصلين عليه، على فرصة لاكتساب مهارات في المجال المهنيّ والتقنيّ الذي يمكّنه من دخول سوق العمل في المجال الذي تدرب عليه خلال فترة الخدمة، الأمر الذي يسهم، ولو بجزء بسيط، في الحدّ من ظاهرة البطالة.
ويتابع الدكتور العورتاني: كانت خدمة العَلَم مطلباً شعبياً في السنوات الأخيرة، فالمجتمع يدرك في ثقافته الجمعيّة التراثية ما كان لهذا القانون من أثر وطنيّ واجتماعي ونفسي على سلوك الشباب وثقافتهم، مبينا أن خدمة العَلَم بصيغتها الجديدة لا تُعتبر معسكراً لإعداد جيش مقاتل من المكلّفين، كما أنها لا تُعتبر عصا سحرية تختفي مع التلويح بها ظاهرة البطالة، وإنما هي فرصة يقدمها الوطن لأبنائه في زمن مزدحم بالأزمات والثقافات وحافل بالفراغ، ويمُدّ لهم يديه ضمن برنامج زمنيّ موجّه يحترم قدراتهم ويُقدّر طاقاتهم؛ ليضعهم في الاتجاه الذي يساعدهم على اكتشاف ذاتهم وتحديد أولوياتهم، خاصة وأنّهم ضمن الفئة المُكلّفة ويخضعون للقوانين والأحكام العسكرية، الأمر الذي يستدعي وعياً كاملاً وحرصاً صادقاً من قبلهم ومن قبل ذويهم، بأهمية هذه الخطوة وأثرها في تشكيل مستقبلهم.
إلى ذلك، يقول الخبير الأمني العميد الركن المتقاعد الدكتور مطلق عواد الزيود، إن قرار الحكومة بإعادة تفعيل "خدمة العلم" أو ما يعرف بالتجنيد الإلزامي للفئة العمرية بين 25 – 29 عاما، بقالب جديد في ظل تداعيات جائحة كورونا، هو أمر مهم في تنمية مهارات الانتماء والانضباط وتحمل المسؤولية، إضافة للتكوين المعنوي لدى الفرد من خلال الدروس والمحاضرات حول القضايا السياسيّة والاقتصادية وتوطيد العلاقات الاجتماعية والثقافية والفكرية بين الشباب، إضافة الى اكتساب المهارات التقنية والفنية التي تمكن الشباب من الدخول إلى سوق العمل بكفاءة واقتدار.
ويشير الدكتور الزيود إلى أن تصاعد الدعوات في الفترة الأخيرة لإعادة خدمة العلم في الأردن، يأتي لأسباب اجتماعية وفكرية واقتصادية، من أبرزها: تقويم سلوك الشباب وتعديله، بعيدا عن التقليد الأعمى للمجتمعات الغربية، وعدم استغلالهم والتغرير بهم، وصقل شخصيتهم وتعزيز القيم الحميدة لديهم والتزامهم بالقانون، وترسيخ قيم الولاء والانتماء والمواطنة، وتعزيز ثقافة الحوار، إضافة إلى تشغيل العاطلين عن العمل، واستخدام المجندين بعد الانتهاء مِن خدمة العلم، كقوى عاملة في المجتمع بسبب الخبرات التي اكتسبوها، وتوجيه الكفاءات المتخصصة منهم من ذوي المستوى التعليمي المتميّز لرفد الاقتصاد الوطني الأردني.
وفي سياق متصل، يلفت الناطق الإعلامي في وزارة العمل، محمد الزيود، إلى أن إعادة تفعيل خدمة العلم بقالبها الجديد، يأتي متوافقا مع متطلبات المرحلة الحالية، وذلك لتعزيز الهوية الوطنية لدى الشباب، وتكريس مفهوم الانضباط والالتزام وتحمل المسؤولية تجاه أنفسهم ووطنهم ومجتمعهم، فضلا عن تعزيز ثقافة الإنتاجية والعمل التطوعي الذي يرسّخ ويزرع قيم الانتماء لتراب الوطن.
ويضيف، ان إعادة تفعيل خدمة العلم يكسب الشباب المهارات التقنية والمهنية والعملية، والتي من شأنها تأهيلهم لدخول سوق العمل بكفاءة واقتدار، مبينا أن إعادة التفعيل يأتي وفق برنامج مكون من 12 شهرا، إذ أن الثلاثة أشهر الأولى منه، يتضمن تدريبا عسكريا مكثفا في ميادين القوات المسلحة.
ويشير إلى أن التسعة أشهر المتبقية من سنة البرنامج، تنقسم إلى مسارين، أولهما التدريب التحضيري، والذي يتضمن تدريبا في المهارات التحضيرية لسوق العمل، فيما يشتمل المسار الثاني على تدريب مهني تقني، إضافة للتدريب العملي في سوق العمل.
ويعتبر المستشار في القضايا العمالية، المحامي حمادة أبو نجمة، أن التعاون بين القوات المسلحة والقطاع الخاص في مثل هذه البرامج أمر إيجابي، ويهدف إلى تعزيز قيمة العمل لدى فئة الشباب وتطوير مهاراتهم الحياتية والمهنية، وبما يتيح الفرصة للقطاع الخاص الحصول على احتياجاته من العمالة الأردنية اللازمة والمؤهلة والمدربة.
ودعا الى أن تكون برامج التدريب مصممة لأعمال ومهن يحتاجها سوق العمل، لضمان توفير فرص عمل لهم بعد إنهاء تدريبهم، إضافة إلى أن تكون البرامج وفق المتطلبات الفنية لأصحاب العمل.
وعن مدى إمكانية مساهمة هذه البرامج في الحد من البطالة، يشير إلى أنه لا بد أن يرافقها استحداث فرص عمل جديدة لاستيعاب الأعداد المتجددة من الداخلين الى سوق العمل. وبين أبو نجمة، أن هذا النوع من البرامج يتعامل مع ما يتوفر من فرص عمل، وهي في هذه المرحلة بالتحديد فرص محدودة جدا في ظل تأثير جائحة كورونا على مختلف القطاعات والضائقة الاقتصادية، والتي تعاني منها الغالبية العظمى وخاصة في مؤسسات القطاع الخاص، التي لم تعد تقوى على استحداث فرص عمل جديدة، بل تعمل على التخفيف من كلف الإنتاج وبشكل خاص التخفيف من العمالة وكلفها وأجورها.
يشار الى أن وزارة العمل كشفت أخيرا عبر منصتها الإلكترونية، عن آلية التكليف والاستدعاء لخدمة العلم، إذ ستقوم بترشيح أسماء الذكور من مواليد عام 1995، للتكليف والاستدعاء، فيما سيتم اختيار المكلف لخدمة العلم من قبل القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي)، كما سيتم الاستدعاء رسميا لمن تنطبق عليهم المعايير التي تحددها القوات المسلحة.
--(بترا)