الأنباط -
في إحدى زوايا الأرصفة المتناثرةِ شظايا دامية، جلسَ بذاكرته المهترئه، وبعمرِه الفتيّ بجوارِ جدّه القُدسيّ..
أخذ نفساً بتنهيدةٍ حارقه، مسحَ جدّه عليه واسترسلَ بترنيمةٍ كهلةٍ، كأنّ الطُّهر العابق في عينيه استطاع فهم النبضِ الخافت في السطور..
يا بنيَّ..
بيني وبينك واحدٌ وثمانونَ خريفاً، وألفَ أغنيةٍ للهزيمة ومئاتُ الحروب المنتصره.. وملايين الكلماتِ العالقة ما بين الفمِ والبلعوم..
يا بنيَّ..
من هروَل إليكَ ثعلباً يتحدثُ عن غيرك.. إعلم أنّه هرول كلباً إلى غيرك يحكي عنك ..
ومن حفرَ لكَ مرّةً من ورائك ، سيتباهى حتى يصل به الأمر إلى أن يحفر لك ملايين المرات أمامك دون أن يشعر بالخطيئة..
يا بنيَّ..
إعلم أن الدنيا أصغر من ثقبِ الحلق في أذن ابنتك الصغيره، وما يخرُج من فاهك اليوم.. ستحمله الطيور يوماً، وتدورُ عقارب الأزمنة لتصغُر قدرًا وقيمةً في العيون حتى لو لم يُخبِروك..
يا بنيَّ..
أكثرُ الناس فعلًا للعيب هم من يرموننا بسهامهم ويبنون فوق رؤوسنا عمائم أخلاقهم ويجتَرُّون من أدمغة الآخرين كما تجتَرُّ الخراف بغباء ووحشية..
ثم من قال لك أن المنطق أن تنتظر التصفيق منهم وهم الأكثر ذنبًا والأبعد عن المغفرة!
يا بنيَّ..
من رآك بعينٍ واحدة ومرةً واحدة.. اجعله فوق أدراج الهمم والتضحيات..
وحذاري أن تنغرّ بظواهرهم.. لا يُلدَغُ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرّتين!
لا.. لا تُنكر أصلك.. فهذا هو الخيطُ الرفيع للتميُّز .. ولكن لا تكن لقمةً سهلة المضغ..
اجعلهم يحصلون على كل ما يُريدون.. تظاهر بالغباء لا بأس.. دعهم يعيشوا زيف انتصاراتهم..
انتصاراتُنا الحقيقة هي عدد المرات التي حافظنا بها على شرفنا بيننا وبين أنفُسنا بكُلّ صدق دون أن نكذب على أنفسنا ونخدعها بأننا على صواب..
ولكن هكذا الانسان.. يرى نفسه الصوابَ دوماً مهما أخطأ.. دوماً يرى ما لَهُ ويحرق الاخر ورغباته.. ينظر للأمور من زواية حقوقه ويشعر بالعُمي عن الواجبات وتُصبح الوغد ان حاولت مجرد التفكير أن تتحدث ..
يا بنيَّ..
ان الفرص هي كذبة الحياه لكي تستمر ولكن الثقة ما ان خُدِشت ماتت!!
رنّت كلماتُه جيداً في أُذني مع غليانِ دلّةِ القهوه على حطبِ عُمرِنا وَقُمْتُ بهدُوءِ المُتّزِنِ أسكُبُ الفناجين وأرتشِفُ الصّمتَ..