افتراضيًا وواقعيًا
بقلم: زيد أبوزيد
في إطار مواصلة التعليم واستمراره برغم جائحة وباء كورونا في العالم والتي أدت إلى تعليق عمل المدارس في معظم دول العالم، ونجاح هذا النوع من التعليم في دول العالم بنسب متفاونه بسبب توافر البنية التحتية أو تدريب المعلمين أو تعاون المجتمع وتفاعل الطلبة، إلاَ أنَ الاهتمام بمفهوم المدرسة والصف كوحدة أساسية للتعليم افتراضيًا وواقعيًا، تزايد بشكل كبير، وكان الاهتمام بالتعليم عن بعد كقضية اضطرارية فرضتها الجائحة . ولكن هل يمكن الحديث عن رحلة ما بعد كورونا في التعليم بشقيه التقليدي الصفي وعن بعد ، وعن ثنائية للعمل والتعليم بالنظامين معا في الأنظمة التربوية؟، وهل استطاع المعلم الأردني أن يتفاعل مع طلبته ويقتحم مجال التعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد بذات الدرجة التي كانت في التعليم التقليدي؟، وهل إستطاع المعلمون فهم الأدوار الجديدة في ظل النموذج الجديد؟، وهل يمكن المزاوجة بين الصف الافتراضي والتقليدي في النظم التربوية في ضوء التجربة التي تم تطبيقها في زمن كورونا؟، وهل يمكن إيجاد ترابط وصلات منهجية بينهما بشكل دائم ؟.وهل كانت التجربة فرصة حقيقية للمعلم والطالب أن يقتحموا عالم المدرسة الإفتراضية والصف الافتراضي مرة واحدة، لتكون النتيجة إختلاف وسائل التقييم والتفاعل ومرة واحدة دخلنا ثقافة القرن الجديد دون ان ندق بابه هذه المرة.
إن التجربة الأردنية في مشروع التعلم عن بعد، والتعليم بشكل عام تجربة فريدة ، وقد تأكد للجميع أن التطوير في كل عناصر النموذج التربوي الاردني أصبحت عملية دائمة ومستمرة تكتمل تفاصيلها يومًا بيوم، وأصبح النموذج التربوي الاردني كالكائن الحي ينمو ويكتمل كل يوم ، حتى اجتاحت العالم جائحة فيروس كورونا لتضع النموذج بأكمله، والقائمين عليه في اختبار حقيقي، وهنا كانت المفارقة ان الأردن نجح بامتياز في استمرارية التعليم رغم تعليق عمل المدارس وأصبحت الاسئلة التي تدور كم هي نسبة النجاح؟، وهل جودة التعليم عن بعد هي ذاته في التعليم التقليدي أم أقل؟ وفي ذلك اعتراف واضح أن عملية التعليم مستمرة.
وفي زيارة رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز الميدانية للاطلاع على تجربة وزارة التربية والتعليم في منظومة التعليم عن بعد مثل منصة " درسك" ، ومشاهدة آلية تحضير وتقديم الحصص المدرسية الكترونيا، والاستماع من وزيرالتربية والتعليم الدكتور تيسير النعيمي عن كيفية تطوير المحتوى، والابتكار والابداع، وتدقيق المحتوى الداخلي والكيفية التي يتم فيها تحضير المحتوى التعليمي للدروس والمفاهيم والأفكار المتعلقة بها، وتدقيقها من قبل معلمي الوزارة المتواجدين في المنصة، قبل تحويلها إلى مقاطع فيديو على منصة "درسك" والاطلاع على استوديوهات التصوير التلفزيوني التي يتم عن طريقها تسجيل الحصص التعلمية لطلبة المدارس وبثها كمقاطع فيديو، وكيفية شرح الدروس الصفية وكيفية الإجابة على أسئلة الطلبة الكترونيا، والتفاعل معهم.والحديث حول أبرز تحديات ومزايا التعليم عن بُعد، قال الرزاز " هذا مصدر فخر حقيقي لكل الأردنيين، ونتمنى من الأهالي أن يشاركوا أبناءهم في المواد التعليمية المقدمة عبر منصة درسك ويتفاعلوا معهم، بهدف تحسين جودة تعليمهم"، مؤكدا أن التعليم عن بُعد نجح بامتياز بفضل جهود الجميع.
فإن هذا يفتح الباب واسعًا للمزاوجة بين النظامين التقليدي الصفي ونظام التعليم عن بعد، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن النموذجين يعتبران أنَ دور المعلم محوريًّا بوصفه المرجع الأساس في عملية التعليم، وعنصر الاتصال الأهم فيها؛ ففي التعليم عن بعد لا تكون المعرفة ونقلها بحد ذاتها هدفا وحيدًا، بل يوازي ذلك هدف لا يقل أهمية يكمن في دعم الطلبة تلافيًا للصعوبات والتحديات التي يواجهونها؛ وهي ذات العملية التعليمية في الصف التقليدي أي الاتصال والتفاعل في عمليتي التعليم والتقييم خاصة وأن البنية التحتية الأساسية التكنولوجية اصبحت داعمًا للنموذج ثنائي التعلم.
ولفهم المسالة التربوية في عملية التعليم، والخيط الفكري الناظم في كيفية تأمٌل الوضع التربوي الحالي والمستقبلي، لا بد من تفحص الآليات التي تعمل وفقها المؤسسة التربوية وكيفية عملها بحثا عن طبيعة صلتها بالنظام التربوي ككل ومدى اعتبارها للمدرسة التقليدية والافتراضية كوحدات أساسية في عملية التعليم والتعلم بموازاة ذلك مع التعلم عن بعد، خاصة وأنَ التعليم عن بعد يتم في الغالب عبر الإنترنت ويمكن الوصول إليه عبر أنحاء العالم ، كما يعتبر التعليم عن بعد عملية نشطة لأنه يتحدي المتعلم لإمتلاك وإدارة وجدولة الأعمال التعليمية، كما يجب أن يكون التعليم عن بعد تفاعلي وتعاوني ويتم تمكين الوسائط من المتعلمين للتفاعل مع المحتوى مع المعلم أو مع المتعلمين الآخرين.
إن المدرسة ببعدها المكاني والاعتباري، تأخذ حيزا تربويا كبيرا في حياة الأبناء، فهي المكان الذي يتعامل فيه الطالب مع أقران يشابهونه في العمر والاهتمامات والثقافة والسلوكيات، وكل هذه عوامل مؤثرة وصانعة في الشخصية ، إضافة إلى تعامل الطفل مع المعلم كمصدر للمعلومة أو ميسر للوصول لها، كل هذا يترك أثره في الشخصية، فهل يمكن تلافي ذلك في المدرسة والصف الافتراضي.
ان التغيير المنهجي للتعامل مع عملية التعليم في ظل الأزمات، ونجاح وزارة التربية والتعليم بطرح خيارات مفتوحة بذكاء وحسن تدبير أمام الطلبة والمعلمين وحتى أولياء أمور الطلبة يطرح علينا جميعا التفكير في القضايا التربوية المطروحة في عمقها وفي امتدادها الزمني، ويجعلنا دون شك نفكر في المسألة التربوية وفق منوال جديد يتأسٌس على محورين هامين، يتمثل المحور الأول في البعد الأفقي للنظام التربوي ويتجلى المحور الثاني في البعد العمودي:
حيث يمكٌننا عبر المحور الأول الافقي من رصد عمل كل من المؤسسة التربوية والنظام التربوي المركزي ككل، وعلى مدى القدرة على إدراك القضايا التربوية كنتاج للتفاعل الديناميكي بين مختلف مكونات كل منهما في ظل كل الظروف وأن عملية التعليم وحتى النشاطات المرتبطة بها ستستمر وفق نهج جديد أثبتت أزمة هذا الوباء الخبيث إمكانية تحقيقها والوصول الى نظام مبني وفق أسس علمية عديدة تتطلبها الثورة التكنولوجية اجباريا . فإذا كانت مسألة دراسة وتحليل مكونات النظام التربوي على المستوى المركزي( المضامين، البيداغوجيا، الوسائل التعليمية، الكتب المدرسية، الاطار التربوي، إطار الإشراف، البنية التحتية والتكنولوجية ، الحياة المدرسية بما فيها من أنشطة ثقافية واجتماعية وصحية ورياضية وكشفية، وإدارة الوقت المدرسي بما فيه من إيقاع يومي واسبوعي وفصلي وسنوي)، لا يمكن ان يكون إلا في إطار ملاحظة ثابتة وساكنة تسعى إلى فهم كل مكوٌن على حده. فإن ما تتيحه المؤسسة التربوية وهي في حالة عمل وتقييم وكشف وتحليل يبيٌنان أهمٌيٌة هذه المكونات عندما تكون في حالة تفاعل خلال الصفوف الإفتراضية وإلى الواقعية مستقبلا . وخلافا لما يمكن أن نستنتجه من عملية إدراك قائمة على مكونات منعزلة قد تختلف نوعيٌا عما يمكن أن نستنتجه من عملية ادراك حيوية متحركة لتفاعلات حقيقية بين مكونات نظام وهو يعمل في كل الظروف .
ان ملاحظة المضامين المعرفية المبرمجة للتعليم التقليدي أو عن بعد على سبيل المثال، في اي مستوى من المستويات، لا يمكٌننا سوى من رصد المحتويات الداخلية وكيفية عرضها ومدى اتساقها أو محاولة فهم المضامين المعرفية في إطار عمل المؤسسة التربوية، فيمكننا من الكشف عن تفاعلها مع مستوى المتعلمين ومدى تناسبها مع حاجاتهم الفعلية، كما يمكنٌنا من رصد تفاعلات المعلمين الجارية فعليا مع مستوى المتعلمين في صلة بالزمن المخصص للتعليم والتعلم وفي علاقة كل ذلك بالمساهمة الفعلية في تطوير الكفايات المستهدفة في النموذجين معًا.
ان المؤسسة التربوية تتيح لنا من خلال حالات عملها الدائم في كل الظروف فهم معنى الكل الذي يفوق مجموع الأجزاء لتكون الأحكام واقعية وتنسجم مع طبيعة التجربة مع دراسة الارتباطات الممكنة بين هذه المكونات التي تكون بدورها في حالة تغير وتطور منتظم ومنظم في الفضاء والزمن عبر كل النظام التعليمي وهي فرصة للتطبيقات الذكية لتكون جزء كبير من عملية التعليم والتعلم مستقبلا .ويسمح لنا البعد العمودي بالتدقيق في كل من المؤسسة التربوية وهي المدرسة بالدرجة الأولى والنظام التربوي وما يمكن رصده عند عمل كل منهما. يتمثل البعد العمودي الذي نوظفه منهجيا للفهم في المستويات الهيكلية لكل منهما ( المستوى الاستراتيجي، المستوى التنظيمي، المستوى الإجرائي )، و تحدٌد عملية فهم النظام التربوي ككل في مستويات هذا البعد العمودي، في فهم الخيارات الوطنية والتوجهات السياسية التربوية ومدى تناسقها ونوعيتها وكيفية تنظيمها، وفي فهم الجانب التنظيمي والهيكل الإداري الذي يمثل شرايين مرور مضامينها، وفي رصد النتائج الاجمالية الخاصة بالمردود الداخلي للنظام التربوي وهو يعمل بنسق ثابت سواءً في ظل تعليق المدارس أو عملها، إذ يصبح التعليم واستمراره هو الاساس وليس المدرسة الواقعية إذ تحل المدرسة والصف الافتراضي مكانها ثم في لحظة أخرى يتزاوج النظامان.
و تسمح لنا المؤسسة التربوية وهي تعمل بفهم مدى التطابق النوعي بين هذه المستويات في تفاعلاتها المختلفة، وتبين ما اذا كانت الممارسات المهنية الفعلية في تناغم مع الهيكلة التنظيمية ومدى قدرتها على بلوغ التوجهات التربوية والخيارات المؤملة.
ان الاضافة النوعية التي تتيحها المؤسسة التربوية هو الكشف الديناميكي لصلات المكونات ببعضها بما يعطي المعنى الحقيقي للكل. ان المؤسسة التربوية في عملها تسمح بأيجاد الارتباطات الممكنة بين مدخلات المسألة التربوية وعملياتها المختلفة ومخرجاتها الكمية والنوعية وهو ما توفره نسبيا منصات التقييم .فعمليا لا وجود لمكون ثابت غير متحرك، ولا وجود لحالات ثابتة ساكنة تعطينا مهلة التفكير والتأمل. فبفضل هذه العقلانية المؤسساتية، نفهم الارتباطات وتأثيراتها ونخضعها للدرس والتمحيص بما يجعلنا ندرك اننا بصدد النظر والتفكير الاستراتيجي في مؤسسة تربوية حيوية متحركة من الداخل من جهة، ومتطورة وديناميكية في تفاعلها مع كل مكونات البيئة المحيطة بها من جهة أخرى. كل هذا يجعلنا نستنتج انه لا وجود لمؤسسة تربوية ثابتة وساكنة وغير متفاعلة مع عناصر البيئة المحيطة بها، وان فهمها يبقى رهين فهم جميع هذه المتغيرات، فلا وجود لنظام تربوي ثابت وساكن يمكن فهمه بمجرد ملاحظته وتحليله بطريقة مبسٌطة وغير متفاعل مع جملة النظم الاجتماعية ذات الصٌلة به.، وهو ما يقود إلى اننا امام انعطافة تاريخية للنماذج التربوية عالميا واردنيا بشكل خاص، والله الموفق.