الأنباط -
الأنباط - يستيقظ محمد صباح كل يوم، مستعدا للحياة كما الموت، لكن صوت الحياة والأمل
عنده أعلى؛ فسنوات مرضه الطويلة بسرطان الدم (اللوكيميا) التي تراوحت بين
الشفاء والانتكاسة، جعلته أقوى غير خائف من لحظة الموت بقدر ما هو مستعد
لها.
يتحدّث محمد (اسم مستعار)، الشاب الغض الذي لا يزال في مقتبل العمر
لوكالة الأنباء الاردنية (بترا)، عن تجربته مع مرض السرطان، معتبرا أنها
علّمته الكثير وجعلته أقوى، ليصبح إدراكه لمعنى الحياة مختلفا عن الآخرين.
ويقول
محمد، الذي يتدرب على تطوير موهبته في التصوير الفوتوغرافي، "رحلة علاجي
الطويلة وانتكاساتي الصحية، جعلتني في كل مرة أقترب من الله أكثر؛ فالموت
حق كما هي الحياة، وعلينا كبشر القبول بهاتين الحقيقتين".
ويتابع "إن
اقترابي من الموت عند كل انتكاسة، كان يجعلني أدرك تماما أن أهم شيء في
الحياة هو إنسانيتنا، وأن نحيا فيها بسلام إلى أن نرحل منها بسلام".
يصف
محمد الرعاية التلطيفية، التي ما زال يتلقاها، بعد أن استنفذ الأطباء جميع
الإجراءات الطبية في علاجه، بأنها جيدة ولكنها بحاجة إلى التطوير وبخاصة
في الجانبين النفسي والاجتماعي المتخصصين، معتبرا أن وجود طبيب نفسي واحد
في المركز الذي يتلقى فيه العلاج، وأخصائيين اجتماعيين غير كاف، نظرا لحاجة
المريض لأطباء نفسيين متخصصين في مرض السرطان.
كما يؤكد أهمية أن يكون
جميع الكادر الطبي متدربا على كيفية تقديم العون النفسي والمعنوي للمريض،
الذي يحتاج في مرضه إلى من يسانده في احتواء مشاعر القلق والتوتر التي يمر
بها في هذه المرحلة الصعبة.
يتفق أبو محمد مع ابنه، في أن خدمة الرعاية
التلطيفية التي يقدمها مركز الحسين للسرطان للمرضى وعائلاتهم في مراحل
العلاج المختلفة بما فيها الدعمين النفسي والاجتماعي، بحاجة إلى تطوير
لترقى الى حجم المعاناة والمحنة التي يعيشها محمد وعائلته مع تلاشي الأمل
بعلاجه.
تفتح قصة محمد وحالته المرضية، الباب على ملف الرعاية التلطيفية
للمصابين بهذا النوع من الأمراض المستعصية في الأردن، بما فيها تلك التي
تتلقى العلاج في مركز الحسين للسرطان، باعتباره الجهة الوحيدة التي تقدم
هذه الرعاية بشكل مؤسسي، فيما تقدم المستشفيات الرسمية الاخرى هذه الخدمة
بشكل جزئي، ما يجعل محمد محظوظا لتلقي العلاج في المركز.
وتعرّف الرعاية
التلطيفية، بأنها أحد مجالات الرعاية الطبية التي تركز على تخفيف الألم
على المرضى للمساهمة في الحد من معاناتهم، ويرافق الطب التلطيفي المرضى في
كل مراحل المرض، بما في ذلك أولئك الذين يخضعون للعلاج من أمراض يمكن
الشفاء منها، أو يعانون من أمراض مزمنة، بالإضافة إلى المرضى الذين يقتربون
من نهاية الحياة.
ويشمل العلاج التلطيفي طرقا متعددة، تتعامل فرق
الرعاية التلطيفية من خلالها مع الأمور الجسدية والعاطفية والروحانية
والاجتماعية للمريض مع تقدّم مرضه.
ويرى مختصون أن غياب الرعاية
التلطيفية المؤسسية والشاملة، التي تخفف المعاناة الجسدية والنفسية
للمصابين بأمراض مستعصية، تجعل من حياتهم اكثر قسوة، ما يؤكد حجم المعاناة
التي يعيشها المريض في مثل هذه الظروف.
وزارة الصحة بدورها، تؤكد وجود
ما يُعرف بالرعاية التلطيفية في الوزارة وفي مركز الحسين للسرطان، حيث تقوم
كوادرها المؤهلة ببعض الزيارات المنزلية للمرضى بالتعاون والتنسيق مع
الهيئات والجمعيات المحلية المختصة ومنها جمعية الرعاية التلطيفية
الأردنية.
وتقول الوزارة أنها تسعى إلى التوسّع في رعاية مرضى السرطان
من خلال استحداث عيادات في المراكز الصحية في المحافظات، بالشراكة مع
الجمعيات المختصة في هذا الشأن.
رئيس قسم مكافحة السرطان ومدير السجل
الوطني للسرطان في وزارة الصحة الدكتور عمر النمري، يؤكد لــ (بترا)، أن
المستشفيات الحكومية، تقدم خدمات الرعاية التلطيفية بشكل جزئي، وان الوزارة
عملت منذ سنوات على تدريب كوادرها الطبية والتمريضية على القيام بهذا
النوع من الخدمة الطبية، دون ان تستمر بذلك.
ويقول النمري، إن وجود
رعاية تلطيفية بشكل مؤسسي في القطاع الرسمي، يتطلب قرارا إداريا ودعما
ماديا، وتدريبا مكثفا للكوادر الطبية، بالإضافة إلى تعديل التشريعات
والقوانين المتعلقة بالإجراءات الطبية وصرف الأدوية المخففة لآلام المرضى
في الحالات المتأخرة من المرض.
بدوره، يؤكد رئيس قسم الطب التلطيفي في
مركز الحسين للسرطان الدكتور عمر شامية، أن الرعاية التلطيفية تقلّل من
الكلف المادية على القطاع الصحي بحسب دراسات عالمية وأخرى محلية.
ويشير،
إلى أهمية تفعيل الاستراتيجية الوطنية للرعاية التلطيفية، التي أعدتها
وزارة الصحة في وقت سابق، بالتعاون مع بعض الشركاء وأصحاب المصلحة،
باعتبارها استراتيجية متكاملة يمكن الاستفادة منها مستقبلا إذا توفرت
الإرادة والقرار الرسمي في تنفيذ هذا النوع من الرعاية.
وتتعدى هذه
الاستراتيجية، بحسب شامية، تقديم الرعاية التلطيفية لمرضى السرطان في
المراحل المتأخرة، إلى مصابين بأمراض أخرى مستعصية كفشل الأعضاء مثل الكلى
والقلب وغيرها.
ويرى شامية، أن غياب نظام الرعاية التلطيفية الشاملة،
يدفع ذوي مرضى الحالات المستعصية ممن يعيشون أيامهم الأخيرة، للبحث عن
معجزات غير واقعية وأمل بالشفاء، عبر صرف مبالغ مالية طائلة على فحوصات
وإجراءات طبية لا فائدة منها، معرضين بذلك مرضاهم لمزيد من المشقة
والمعاناة.
ويشير للضغوط التي يتعرض لها الكادر الطبي في المركز من قبل
ذوي المرضى في أيامهم الأخيرة، من أجل الإبقاء على حياتهم، واتخاذ إجراءات
لا فائدة تُرجى منها، بل تزيد من معاناة المرضى في مرحلة الاحتضار.
وحول
نظام الرعاية التلطيفية في مركز الحسين للسرطان، يقول شامية، إن المركز
ينفرد في الأردن بتقديم هذه الرعاية للمرضى الذين لا أمل في شفائهم، بحيث
يعيشون أيامهم الاخيرة محاطين بمختلف أنواع الرعاية الطبية والإنسانية.
ويقول
إن الرعاية التلطيفية لحالات مرضى السرطان بالمركز تطوّرت بشكل جيد خلال
السنوات العشر الأخيرة، مبينا أن هناك أربعة أنواع من الخدمة يقدّمها
المركز، وهي: الرعاية التلطيفية المباشرة للمرضى داخل المركز، وفي المراحل
المرضية المتقدمة للمريض، وتلك التي تقدم من خلال استشارات في أي مرحلة من
مراحل علاج المرضى سواء المبكرة أو المتقدمة، إضافة إلى خدمة العيادات
الخارجية، وخدمة الرعاية المنزلية.
ويوضح أن هناك وحدة خاصة للرعاية
التلطيفية في المركز لعلاج الأعراض والتخفيف من الألم، وتقديم الدعمين
النفسي والاجتماعي للمريض وعائلته، من خلال كادر طبي خاص ومتكامل، فيما
تقدم هذه الخدمة كذلك للمريض إذا كان في المنزل، مبيّنا أن المركز لديه
أربع فرق متخصصة في هذا المجال للزيارات المنزلية تغطي مناطق العاصمة
وضواحيها، ومحافظات عجلون، وجرش، وإربد، والزرقاء ومأدبا.
كما يتعاون
المركز بحسب شامية، مع مجموعة من المتبرعين المسلمين والمسيحيين لتوفير
الدعمين الروحي والمعنوي للمرضى، في الوقت الذي تقدم فيه كوادر المركز هذا
النوع من الدعم نتيجة للخبرات التي اكتسبتها.
ويؤكد أن المركز، الذي يوجد فيه طبيب نفسي واحد وأربعة أخصائيين اجتماعيين، يتطلع لتطوير دور كوادره في هذا المجال.
وحول
التحديات التي يواجهها المركز فيما يتعلق بتطوير الرعاية التلطيفية، يشير
شامية إلى عدم وجود أطباء نفسيين متخصصين في معالجة مرضى السرطان، وعدم
وجود إقبال على زمالة الطب التلطيفي، بسبب توجه الأطباء لتخصصات الجراحة
وعدم الاهتمام بهذه النوع من الاختصاص.
الدكتور حسّان أبو عرقوب من
دائرة الإفتاء العام، يؤكّد أيضا أن المرضى الذين يعيشون أيامهم الأخيرة
يحتاجون بشدة إلى مساندة روحية ودينية تساعدهم على التحمّل والصبر على
مصيبة الموت والفراق.
ويقول أبو عرقوب، إن هناك حاجة كبيرة لأشخاص
مؤهلين للقيام بهذا الدور، ويتفهمون طبيعة الإنسان في مرحلة دنوّ الأجل،
مؤكدا استعداد الدائرة لتقديم هذه الدعم لكل من يطلبه.
وتشير أرقام
وزارة الصحة، بشأن الحالات الجديدة لمرضى السرطان، إلى أن هناك 8500 حالة
يتم تشخّصيها سنويا في الأردن، منها 5500 - 6000 حالة بين الأردنيين، فيما
تسجّل بقية الحالات من المقيمين، أو المرضى الذين يأتون بقصد العلاج إلى
الأردن.
وتظهر الأرقام ان ما يزيد على 55 بالمئة من الحالات الجديدة يتم
تشخصيها في مراحل متقدمة من المرض، فيما يكون المرض منتشرا في نحو 40
بالمئة منها.
وتعتبر رعاية المحتضرين، عملية إنسانية وأخلاقية وحضارية،
تركز على الرعاية لا على الشفاء، ولا تنحصر في مكان بعينه، ويمكن لهذه
الرعاية ان تتم في منزل المريض، أو أحد المراكز الطبية، أو أي مكان آخر
ملائم، ما يجعل منها أمرا مهما يجب دعمه في الأردن سواء على الصعيد الرسمي،
أو الأهلي، أو التطوعي، لتقديمها بشكل مؤسسي لجميع المرضى في مراحل حياتهم
الأخيرة دون استثناء والبناء على ما تم انجازه في هذا المجال وتطويره.
فالمرضى الذين يعانون من أمراض مستعصية مهمون حتى آخر لحظة من حياتهم،
"وعلينا أن نبذل قصارى جهدنا ليس فقط لمساعدتهم أن يموتوا في سلام، ولكن
ليحيوا بسلام حتى يرحلوا"، كما تقول الرائدة في حركة رعاية المحتضرين في
انجلترا سيسلي ساندورز.
-- (بترا)