من أسوا القناعات التي ترسخت في ذهن أجيال وعلى مدى عقود متواصلة في العالم العربي هي ثقافة "التحقير والحط من قدر" القيم الديمقراطية وأدواتها"، فمع بداية التحرر القومي من الاستعمار الغربي وتحديدا البريطاني والفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية انتشرت ثقافة سياسية جديدة، تظهر الغرب وكل ما يتصل به بأنه "ضلالة وكفر وزندقة"، وان "الديمقراطية" بحد ذاتها هي أداة من أدوات الاستعمار ووسيلة من وسائله للعودة إلى دولنا التي "تحررت" منه، وقد ساهم في "شيطنة" الديمقراطية الوليدة في بعض الدول العربية ذلك التطبيق "الأعرج" لها، تزوير النتائج والتلاعب بها من قبل السلطة الحاكمة وإعطاء مخرجات تساهم في تحطيم آمال الناس من خلال فرز طبقة سياسية من الجهلة والفاسدين وتكريسها كواجهة لهذه العملية الديمقراطية ، ومع مرور السنيين تكرست العملية الديمقراطية في وجدان وعقل المواطن العربي على انها مجرد ديكور وبالتالي هي عملية لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد.
ولعب هذا المناخ السلبي في تعميق مجاميع من الآراء والانطباعات السوداوية التي ساهمت أغلبية السلطات الحاكمة في العالم العربي ومعها القوى الدينية المحافظة الرافضة لفكرة التغيير المجتمعي والثقافي بزرعها في عقول شباب اليوم ، ومن ابرز تلك القناعات ما يلي:
• أن السياسي أي كان موقعه في هرم النظام السياسي القائم فهو إما فاسد ولص و أو ليس لديه "شرف أو قيم" يخاف على خسارتهما.
• إن المعارض للنظام السياسي القائم وبغض النظر عن طبيعة هذا النظام والجغرافيا الموجود عليها فهو إما صناعة لهذا النظام أو صناعة لجهة خارجية أجنبية.
• لا جدوى من الديمقراطية فهي عملية لا تصلح للعالم العربي ولا تصلح لمواطنيه الذي يستحقون أن يحكموا من قبل ديكتاتور بطاش أو رجل دين ظلامي أو شيخ قبلي جاهل لا علاقة له بروح العصر وأدواته الحضارية.
• لا يوجد شيء اسمه "سيادة القانون"، فالذي يحكم المجتمع السطوة السياسية أو الدينية أو العشائرية والواسطة عبر هذه القوى هي التي تسهل حصول المواطن صاحب الحظوة عبر إحداها إلى حقه أو حقوقه أو أهدافه.
• على مدى سنوات طويلة وفي ظل غياب منظومة سياسية واقتصادية وثقافية تكرس حرية الفرد وتحترم عقله وخصوصيته، نشأت ثقافة "النفاق والتدليس" على كل المستويات، وابتكرت لذاتها آليات خاصة تمكنها من الاستحواذ على المزايا المادية والوظيفية والمجتمعية من تعليم وصحة ومكانة اجتماعية، وأنتجت منظومة بديلة مشوهة لمفهوم المساواة في الفرص والعدالة الاجتماعية.
• تحول الفساد في ظل هكذا بيئة إلى نوع من "الشطارة" و"الفهلوة"، وانتفت الحاجة العملية للنزاهة والمحاسبة وتكرست مقولة (صحة على قلبوا والله إنوا شاطر).
بهذا الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والقيمي الذي تعيشه الأغلبية العظمى من مجتمعاتنا العربية، لم يعد هناك إمكانية لخلق بيئة حاضنة للإبداع ولا أي تطور حضاري – إنساني يُحيد أدوات التسلط في مجتمعاتنا العربية ألا وهي التدين الزائف، والقمع السياسي والتسلط ، وسلطة المال والثراء وتعبيراتها السياسية والثقافية والاجتماعية بينما نجد أن الغرب "الكافر" يتمتع بقيم مختلفة تساهم في رفعة الفرد والمجتمع والإعلاء من شانهما.
وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن المسؤول في الغرب وعندما تقع مشكلة وضمن دائرة مسؤوليته الوظيفية سواء كان مسؤولاً مباشراً عنها أو غير مباشر فانه يسارع وكنوع من احترامه لذاته ولمجتمعه بتقديم استقالته وتحت طائلة المسؤولية الأدبية والأخلاقية، بينما لدينا في العالم العربي فإن الأمر مختلف تماما والسؤال لماذا؟
في محاولة الإجابة على السؤال السابق علينا الرجوع للبيئة برمتها وتحليل تأثيرها على سلوك الفرد وعقليته عندها سنجد أن المسؤول في عالمنا العربي ينظر للمنصب أو الوظيفة العامة على انها مصدر للمزايا والمكتسبات المالية والمعنوية يصعب عليه الحصول عليها بسهولة وبالتالي فهو ليس مستعداً ليخسرها مع خسارته لمنصبه ومن هنا تبرز ظاهرة "إنكار الخطأ" أو عدم الخوف من ارتكابه أو المجاهرة بارتكابه.
فاستقالة المسؤول العربي من منصبه طواعية وبقناعة تعد حالة نادرة ونادرة جداً، فمثل هذه الاستقالة في الغرب تعد معياراً للشرف والنزاهة بل والبطولة، بينما لدينا فهي دليل ضعف ومهانة وهو اعتراف لا يحظى بأي تقدير في المنظومة السلطوية والشعبية، على عكس المقولة التي نرددها ليل نهار ألا وهي "الاعتراف بالخطأ فضيلة"!