وليد حسني
" مدينة خضراء ابوابها حمراء، سكانها عبيد، ابوابها من حديد".
هذه فزورة كنا نتقن تردادها وإلقاءها على الآخرين، وكنا نعني بها"البطيخة"، فهي مدينة غامضة طالما أن سكين البائع لم تأخذ طريقها في قشرها السميك، ولبها المائي الهش.
البطيخ أخذ في ذهني منذ عقود مضت مضمونه السياسي، ودلالاته بعيدة المدى متجاوزا حقول البطيخ ومعرشاتها وطقوس الشراء والبيع، وأشكال التقديم والتقسيم، ودرجة الحرارة، وعدد بذورها السوداء"سكانها عبيد"، ودرجة احمرارها..الخ.
يشكل البطيخ اليوم حالة سياسية إذا ما أخضعنا كل ما في البطيخة لمسطرة السياسي، فكل بطيخة بالنتيجة تمثل عالما قائما بذاته، اللون الأخضر الجميل الذي يخفي خلفه عالما غامضا يراهن المشتري عليه كما يراهن البائع على سذاجة وجهل المشتري.
اللون الغامض يخفي خلفه عوالم لا يمكن لأحد التنبؤ بها، هذه القشرة تمثل أية مدينة أو مجتمع يبدو خارجه جميلا ومبهرجا لكن داخله يبقى أكثر غموضا، وهنا تأتي الحركة التقليدية التي يمارسها كل من يريد الدخول لهذا العالم، يتحسس البطيخة بيديه مرات، يديرها دورات كاملة متعددة بين كفيه، ثم يبدأ بعملية الطرق على جوانبها، بانتظار تلقي رجع الصدى من الداخل، وهنا تبدو خبرة المشتري تنحصر فقط في رجع الصدى، إن كان ناعما، أو مضخما، هادئا حنونا، او عاصفا غاضبا.
أليست هذه الحركة الإستكشافية لقشرة البطيخ تمثل في جوَّانيتها ذات الطريقة التي يتم فيها اختبار صلابة المدن والعواصم والسياسات، الطرق هنا على القشرة كمن يطرق على الأبواب المغلقة إما مستئذنا بالدخول، وإما مختبرا مدى قوة رجع الصدى ليدين تضربان على سور موصد حول مدينة مسوَّرة تعتقد في نفسها انها عصية على الإختراق.
وسياسة"الطبطبة" هي السياسة الأكثر نجاعة وقوة وتأثيرا وانتشارا في محيطنا الإجتماعي والسياسي، هنا تتقاطع تماما هذه السياسة مع سياسة تفحص واختبار صلاحية البطيخة قياسا بالمواصفات التي يبحث المشتري عنها،وقد يكون هذا المشتري مستعمرا طامعا، وقد يكون تاجرا مستثمرا، وقد يكون رحالة مستكشفا، وقد يكون جاسوسا يمثل طليعة جيش من الطامعين، أو حتى تاجرا محليا لا تهمه المدينة بقدر ما يهمه حجم الربح الذي سيحققه من بيعها ورهنها..الخ.
بعد انتهاء مرحلة الطبطبة تأتي مهمة التاجر هنا يستعيد مدينته مزهوا بانتصاره على المشتري، فقد بذل البائع الكثير من المغريات والمعلومات التي سيكون معظمها غيبيا لا يستند لأي دليل في محاولة تسويق بضاعته لإقناع المشتري بمحاسن وعظمة بطيخته"مدينته"، ثم يطرح السؤال التقليدي وهو يمسك بحركة طبيعية بسكينه"المفتاح الحديدي للمدينة" قائلا" هل أعلمها؟؟".
و"التعليم" هنا يأخذ طريقا وحيدة وهي ان يمرر سكينه في قلب المدينة ليخرج دليله الفاقع للمشتري بأن ما قاله له كان حقيقيا تماما، وان رهانه كان في مكانه تماما، فهي حمراء من الداخل وبذورها سوداء" سكانها العبيد" وللحقيقة فان العقود الأخيرة لم تعد تمنح لمشتري البطيخ ترف النظر والتمحيص للون البذور ومدى صلابتها، فقد انتهى عصر الاستفادة من البذور لتخزينها واستخدامها لاحقا في فصل الشتاء حينما كان يتم تحميصها داخل المنزل باضافة الملح للتسلية بها في ليالي الشتاء الباردة.
والبذور التي زهد الجميع بالاهتمام بها تمثل تماما المواطنين، والسكان وكل حي يتنفس داخل تلك المدينة، فلم يعد أحد يهتم بالسكان بقدر الإهتمام بالمكان كسلعة رائجة وبضاعة مربحة.
هنا يتم شق جدار البطيخة من الخارج الى قلبها العميق، تستسلم البطيخة لملكية المشتري تماما، ثم توضع في كيس بلاستيكي أسود إمعانا في تقوية عملية نقلها ومحاصرة مائها أو دمها الذي لا بد له وان ينزف جراء عملية الجرح العميق الذي أحدثه مفتاح المدينة الحديدي، أو بمعنى أوضح سكين التاجر الواثق من بضاعته.
"البطيخة" في موضوعها السياسي تمثل تماما واقعنا الإجتماعي والسياسي، ولا أرى كبير فرق في المشهد الصوري بين البطيخة وبيننا نحن، ثمة رهان على الغامض المختفي خلف القشرة الصلبة لمدن تباع وتشترى بالطبطبة اولا، وبالسكين تاليا..//