الأنباط -
الدكتور سلطان المعاني
يُعيد الأردن اليوم ترتيبَ علاقته بالخبرة، ويصوغُ معنى الكفاءة بوصفها رأسَ مالٍ وطنيًّا يتراكم، ثم يُستثمر. ويستحق قرارُ تمديد خدمة أصحاب الخبرات في المؤسسات الحكومية والتعليم حين تقتضي حاجةُ المؤسسة ذلك، وحين تتوافر القدرةُ والرغبةُ والإنتاج، أن يُقرأ قراءةً استراتيجية؛ لأنه يضع معيارًا واضحًا: تُقاس القيمة بما يُنجَز، وتُقاس الجدوى بما يُضاف، وتُقاس الكرامة المهنية بقدرة الدولة على صيانة عقولها.
يُدرك ميدانُ الجامعة على وجه الخصوص أن السبعين محطةُ اكتمالٍ مهنيّ، وتاريخُ خبرةٍ طويلٍ في التدريس والبحث والإدارة وخدمة المؤسسة. وتمنح الجامعةُ في هذا العمر لأستاذها ذخيرةً قلّ أن تتكرر: شبكة علاقات علمية، قدرة على ضبط الجودة، خبرة في بناء البرامج، مهارة في الإشراف العلمي، حسٌّ أخلاقي في إدارة المعرفة، وذاكرةٌ مؤسسية تحفظ التراكم من التبدد. ويصير الأستاذُ هنا بيتَ خبرة يمشي بين القاعات والمختبرات واللجان؛ ينقلُ ما تعلّمه الجيلُ إلى من سيحمل الراية.
ويكفي أن يُقارن المرء بين ما تفعله جامعات العالم المميزة وما نفعله محليًا كي يتبيّن الفرق بين ثقافتين: ثقافة ترى العمرَ بوصفه مؤشرًا إداريًا وثقافة ترى العمر بوصفه وعاءً للتراكم يُدار بالكفاءة. ففي الولايات المتحدة انتهى نموذجُ الإحالة الإلزامية لأعضاء هيئة التدريس على أساس العمر مع انتهاء الإعفاء الخاص بالتعليم العالي في قانون التمييز العمري، وأصبح الإنهاء الإجباري على أساس السن غير مقبول قانونيًا منذ مطلع عام ألفٍ وتسعمئةٍ وأربعةٍ وتسعين، وهو ما دفع الجامعات إلى تبنّي أدوات إدارة الأداء والمسار المهني بدل بوابة العمر.
ويقدّم هذا المثال درسًا جوهريًا: تُدار المؤسسة بآليات تقييم شفافة، ويُفتح الباب أمام من يضيف، ويُكرّم من يختار الانصراف طوعًا عبر برامج انتقالٍ كريم، مع بقاء إمكانية الاستمرار لمن بقي منتجًا. وتؤكد تقارير مؤسسات قيادية في التعليم العالي الأمريكي أن "عصر التقاعد الإلزامي” انقضى، وأن إدارة انتقالات الأساتذة تُبنى على موازنة احتياجات المؤسسة وحقوق الأكاديميين وخبراتهم المتراكمة.
ويأتي النموذج البريطاني في اتجاه قريب؛ إذ أُزيل سن التقاعد الافتراضي على المستوى الوطني، وتحوّل النقاش إلى سؤال الإدارة الرشيدة: كيف تُدار مسارات العمل وتقييم الأداء دون تحويل العمر إلى قاطعٍ آلي؟ وقد أعلنت الحكومة البريطانية إنهاء سن التقاعد الافتراضي، وتُظهر الوثائق الرسمية المرتبطة بإزالة هذا النظام أن التركيز انتقل نحو حديثٍ أكثر مهنية عن التخطيط والتقييم وإدارة الموارد البشرية.
وتُضيف التجربة الأسترالية معنى آخر شديد الدلالة؛ إذ تؤكد أدبيات وإجراءات مؤسسات جامعية هناك أن تشريعات مكافحة التمييز العمري تُفضي إلى غياب "سن تقاعد إجباري”؛ فتتقدم الكفاءة معيارًا، ويتراجع العمر إلى خانة البيانات العامة.
ويفيد هذا الطيف من التجارب أن الجامعات الكبرى لا تنظر إلى ما بعد السبعين بوصفه منطقة خروج، وإنما بوصفه منطقة إعادة تموضع: تدريسٌ أكثر انتقاءً، إشرافٌ نوعيّ على الرسائل، قيادة مجموعات بحث، تحكيم مجلات، رئاسة لجان أخلاقيات البحث، بناء شراكات دولية، وتوجيه الجيل الصاعد إلى أخلاق المهنة قبل تقنيات المهنة. ويظهر في رموز العلم العالمي ما يدعم هذا المعنى على المستوى الإنساني العميق؛ إذ استمر بعض كبار العلماء في البحث والإنتاج في أعمار متقدمة جدًا، ومن أشهر الأمثلة فوز جون ب. غوديناف بجائزة نوبل في الكيمياء في عمر بلغ السابعة والتسعين مع استمرار حضوره البحثي، وهو مثال يُقرأ باعتباره رسالة مؤسساتية: العقل يُثمر حين تتهيأ له بيئة العمل والمعنى.
ويحمل هذا كله إلى الجامعة الأردنية، والجامعات الأردنية عامة، سؤالًا مباشرًا: ما الذي نكسبه حين يُغادر الأستاذُ في لحظة ذروة خبرته؟ وما الذي نخسره حين يُختزل التراكم إلى تاريخٍ في الملف الوظيفي؟ تُخسر الجامعةُ حينها أشياء تُقدَّر بثمنٍ عالٍ: يُخسر معيار ضبط الجودة في البرامج، ويُخسر المرشد الذي يختصر على الباحث الشاب سنواتٍ من التخبط، ويُخسر الاسم الذي يبني الجسور مع المختبرات والمجلات والمؤتمرات، ويُخسر الميزان الأخلاقي الذي يحمي الجامعة من ارتباك المعايير. وتتحول الفجوة سريعًا إلى كلفةٍ علمية: ضعف في الإشراف، تراجع في التحكيم الداخلي، هشاشة في بناء الخطط، ثم اضطراب في سمعة المؤسسة.
وتستحق الإشارة إلى أن قانون الجامعات عندنا تنبّه إلى مساحة تمديدٍ بيد رئيس الجامعة سنةً بعد سنة. غير أن مصلحة الجامعات الوطنية تقتضي تحويل هذه المساحة إلى فلسفةٍ أوسع وأعدل، فلسفةٍ تُقرّ حق الاستمرار حتى الخامسة والسبعين وفق معايير معلنة، لا وفق المزاج الإداري. وتُبنى هذه المعايير على عناصر واضحة: إنتاجٌ علمي قائم، مشاركةٌ في التدريس أو الإشراف، حضورٌ مؤسسي مفيد، قدرةٌ صحية مهنية، ومشروعٌ معرفي يضيف للمؤسسة. ويُتاح في المقابل مسارُ أستاذ خبير/أستاذ فخري عامل يدمج بين المكانة والوظيفة: مكتبٌ بحثي، ساعات إشراف، ولجان نوعية، مع عبء تدريسي محسوب يحفظ الطاقة للجوهر.
وتكتمل الفكرة حين تتحول الجامعة إلى منتجٍ منظمٍ للخبرة عبر بيوت خبرة جامعية داخل الكليات والمراكز، تتولى تدريب القيادات الأكاديمية الشابة، وإدارة بناء البرامج، ومرافقة مشاريع الاعتماد والجودة، وتقديم الاستشارات للوزارات والقطاع الخاص. ويغدو الأستاذُ بعد السبعين في قلب هذه البيوت، لا على هامشها؛ لأنه صاحب "زمن طويل” خبر الامتحانات الكبرى: امتحان القاعة، وامتحان البحث، وامتحان الإدارة، وامتحان النزاهة.
ويستحق الوطن في النهاية أن يستبدل منطق التقاعد المبكر بمنطق الاستثمار المتأخر: فالعقول الكبرى تزداد صفاءً مع النضج، وتزداد قدرةً على وصل الخبرة بالمعنى، وعلى تحويل المعرفة إلى سياسة تعليمية وإلى مشروع بحثي وإلى رعاية للأجيال. ويليق بالأردن أن يعلنها قاعدةً حضارية: يبدأ بيت الخبرة بعد السبعين، وتُقاس الاستمرارية بالكفاءة والقدرة والرغبة والإضافة. هكذا تُبنى الجامعات المرموقة، وهكذا تُصان الثروة التي تمشي على قدمين: الأستاذ الذي علّم، وبحث، وخدم، ثم صار في السبعين أقدر على أن يهب الجامعة عصارة عمره كاملة.