الحاجة إلى إطار عربي مشترك لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر :
الأربعاء - pm 03:50 | 2025-05-28
الأنباط -
حسام الحوراني
في زمنٍ بات فيه الذكاء الاصطناعي يتحكّم في تفاصيل الحياة، من قرارات المستشفيات إلى أنظمة التعليم، ومن تقييم الموظفين إلى مراقبة المواطنين، أصبح من الضروري أن لا نكتفي بإبهار التقنية، بل أن نواجه مسؤوليتها الأخلاقية بشجاعة ووضوح. فكما أن الخوارزميات تزداد تعقيدًا وقدرة، فإن آثارها الاجتماعية والثقافية تزداد عمقًا وخطورة. نحن اليوم أمام منعطف تاريخي جديد، لا يتعلق فقط بالتطور التكنولوجي، بل بالقدرة على حماية القيم الإنسانية في عصر تسوده الآلات. وهنا تبرز الحاجة الملحّة إلى إطار عربي مشترك لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، يكون دليلًا جامعًا ومرجعية راسخة في هذا المجال الحساس.
ليس سرًا أن العالم يسير بخطى متسارعة نحو تنظيم العلاقة بين الإنسان والآلة. هناك وثائق أوروبية، وتوصيات أممية، ومعايير تطوّرها كبرى شركات التكنولوجيا. لكن أين الصوت العربي؟ أين القيم المستمدة من حضارتنا، وثقافتنا، وديننا، وتاريخنا الطويل في الأخلاق والعدالة؟ لماذا نكتفي بنسخ أطر الآخرين، بدلًا من أن نبني إطارنا الخاص الذي يعكس هويتنا، ويضع الإنسان العربي في قلب المعادلة لا على هامشها؟
إن بناء إطار عربي مشترك لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. فنحن نعيش في مجتمعات تتفاوت فيها مستويات التعليم والتكنولوجيا، وتواجه تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية معقدة. لا يمكن أن نسمح بأن تدخل الخوارزميات إلى تفاصيل حياتنا دون أن نعرف كيف صُمّمت، وبأي بيانات دُرّبت، وعلى أي قيم بُنيت قراراتها. هل تراعي الخصوصية؟ هل تعزز العدالة؟ هل تحترم الإنسان ككائن حرّ وواعٍ؟ أم أنها تعيد إنتاج الانحيازات، وتعزّز الفجوات، وتخدم مصالح الأقوياء على حساب المستضعفين؟
الإطار الأخلاقي العربي يجب أن ينبع من داخلنا، لا أن يُفرض علينا من الخارج. إن بناء إطار أخلاقي عربي للذكاء الاصطناعي لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة حضارية تفرضها التحديات الرقمية المتسارعة. يجب أن ينبع هذا الإطار من داخل ثقافتنا وقيمنا، لا أن يُفرض علينا من الخارج بمعايير لا تعبّر عنا. وفي جوهره، ينبغي أن يرتكز على ثلاث ركائز أساسية: احترام الكرامة الإنسانية، وعدم اختزال الإنسان في بيانات أو أنماط سلوكية جامدة؛ الشفافية والمساءلة في كل خوارزمية تُتخذ على أساسها قرارات مصيرية؛ والعدالة الشاملة التي تضمن أن تبقى هذه التقنيات أدوات للتمكين، لا آليات للإقصاء أو التمييز. كما يجب أن يراعي هذا الإطار الخصوصية الثقافية والدينية للمجتمعات العربية، ويضمن تمثيلًا عادلاً للبيانات المحلية في تدريب النماذج الذكية، بحيث لا تُفرض علينا تصورات رقمية مشوّهة أو بعيدة عن الواقع.
ومن هنا، يصبح من الواجب أن ننتقل من دور المستهلك إلى دور المنتج، من الاعتماد على خوارزميات مستوردة إلى تطوير تقنياتنا ذات الطابع المحلي والمضمون السيادي. كذلك، لا بد من التأكيد على حماية الفئات الضعيفة والمهمشة، مثل النساء، وذوي الإعاقة، وسكان المناطق النائية، لضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي عاملًا في تقليص الفجوات لا تعميقها. كما ينبغي أن تتاح للمواطنين القدرة على فهم وتفسير القرارات التي تصدر عن الأنظمة الذكية، خصوصًا في مجالات التعليم، والتوظيف، والعدالة، والتمويل. وفي قلب هذا كله، يجب أن نُولي أهمية قصوى لبناء وعي عام بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي من خلال التعليم والإعلام والتدريب، لضمان مجتمع رقمي واعٍ، قادر على التفاعل النقدي والمسؤول مع أدوات الذكاء الاصطناعي. إنه التزام أخلاقي بأن نوجّه هذه الثورة التقنية في طريق يُعلي من قيمة الإنسان، ويصون كرامته، ويمنحه السيطرة لا الخضوع، والعدالة لا الانحياز.
ولتحقيق ذلك، لا بد من حوار عربي جامع، تشارك فيه الحكومات، والمؤسسات البحثية، وعلماء الدين، والمفكرون، والمجتمع المدني. حوار لا يكتفي بتحديد المخاطر، بل يسعى إلى بناء نموذج أخلاقي إيجابي يعكس تطلعات الإنسان العربي في العدل، والحرية، والكرامة. نحتاج إلى مراكز بحثية عربية تدرس أثر الذكاء الاصطناعي في مجتمعاتنا، وتقترح سياسات متوازنة، وتقدم إرشادات عملية لصانعي القرار، وللمطوّرين، وللمؤسسات التقنية.
كما نحتاج إلى تعليم هذه الأخلاقيات في المدارس والجامعات، لتنشأ أجيال جديدة تفهم التكنولوجيا وتنتجها بوعي، وتدرك أن كل سطر برمجي يمكن أن يُحدث فرقًا في حياة إنسان. لا يكفي أن نُدرّب مهندسين على الكفاءة التقنية فقط، بل يجب أن نُربّيهم أيضًا على المسؤولية الأخلاقية، وعلى أن التكنولوجيا ليست محايدة، بل تعكس من يصممها، ومن يموّلها، ومن يوجهها.
في عالم تحكمه الخوارزميات، يصبح الإطار الأخلاقي هو خط الدفاع الأخير عن إنسانيتنا. وإذا لم يبادر العرب اليوم إلى صياغة هذا الإطار المشترك، فسيُفرض عليهم لاحقًا ما لا يعبر عنهم، وسيجدون أنفسهم في نظام تقني لا يفهم لغتهم، ولا يراعي خصوصياتهم، ولا يُنصفهم في قراراته.
إن الحاجة إلى إطار عربي لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي ليست فقط لحماية المجتمعات من المخاطر، بل لبناء مستقبل يستحقه العرب. مستقبل تقوده القيم بقدر ما تقوده التقنيات. مستقبل نكون فيه فاعلين لا مفعولًا بهم، شركاء لا مستهلكين. فالنواكب الثورة الرقمية، ونؤسس لعصرٍ جديد يكون فيه الذكاء… ذكاءً إنسانيًا بامتياز.