الأنباط -
في نهاية القرن الحادي عشر كانت أوروبا غارقة في الظلام، وكانت الحروب بين هذه الدول الممزقة، بل حتى في الدولة الواحدة وفي المنطقة الواحدة. عصابات مسلحة تسرق بعضها وتقتل بعضها وتحتل وتغتصب وتمارس العبودية تجاه بعضها بكل تلك الوسائل المتاحة.
لم تكن الأخلاق ولا الحضارة ولا الإنسان تعني لهم شيئا، وما فعلوه في القدس بعد إحتلالها يوازي ما فعله هولاكوا وجانكيز خان، قتل للرجال والنساء والأطفال، سبي وسرقة ووحشية فاقت كل تصور هذا العقل الذي ابدع محاكم التفتيش ، ومارس الوحشية في مناطقه وقبائل الغال والفايكنج وغيرها مارست عادتها في القتل والتوحش.
ومع هذا لم يفعل الخليفة في بغداد بعد أن جاءه وفد من الأرض المقدسة يخبره بما فعل الفرنج سوى أن عزل نفسه في قصره واكتفى بمن يسري عليه ويغني له ويعزف له فقد كان مهتما بالثقافة، ومصر التي يحكمها الفاطميون يومها ارسلت وفودا تهتىء الفرنح بالتخلص من بقايا السنة التي تحكم الأرض المقدسة، أما بلاد الشام فقد كانت مقسمة بين رضوان واخوه وامثالهم، من يسعى للكرسي على حساب الأمة، فعاث الفرنجة في المنطقة فسادا، سرقوا وقتلوا وتفرعن ارناط حتى سخر له الله صلاح الدين وثلة معه فكان التحرير.
كان الشرق غنيا زاخرا بالثقافة والعلوم والتقدم في الصناعات وفي الإنسان، مقارنة بهذا الغرب المتوحش، فصلاح الدين عفا عن الآلاف والقادة وكذا فعل المنتصر بالله في الأندلس عفا عن ثلاثين ألف مقاتل فيهم ألامراء والملوك والقادة، ولكنه عفوا وسماح وقع في غير أهله، فما أن تمكن هؤلاء حتى مارسوا ما هم معتادون عليه من السرقة والوحشية ونصب محاكم التفتيش.
واعادوا الكرة مرة أخرى بعد أن أضاع أبناء صلاح الدين الفتح العظيم، حتى جاء المماليك ولكنهم في هذه المرة مارسوا على الفرنجة نفس قسوتهم فكسرت شوكتهم وعادوا إلى بلادهم مكسرون اذلاء.
عاد اهؤلاء إلى أوروبا وقد مستهم روح الحضارة والتقدم، فمع ما سرقوه من أموال وكنوز حملوا الكتب والثقافة والصناعة والتقدم، وحتى الكثير من الأسلحة، فهذه المدافع والبارود وحتى البنادق والقنابل المحمولة بالطائرات الورقية، كل هذا كان اساس للنهضة التي تلت ذلك، ذلك الاحتكاك الحضاري والتقني والصناعي مع المسلمين تحديدا والشرق عموما صنع أوروبا الحديثة.
ثم يخرج علينا من يظن بأن الحضارة والتاريخ والعلوم والثقافة ولدت هناك في أوروبا، يا هذا اقرأ التاريخ مرة وستعلم الحقيقة، وإذا قرأته مرة تلو مرة قد تفهم التاريخ لتعرف دور ابن خلدون وابن رشد وابن الهيثم، ولنعلم أن هذه البشرية ما كانت يوما مناطق معزولة ولا جزر مفصولة، بل كانت حضارة إنسانية ممتدة، أخذ هذا وأضاف وأخذ ذلك وأضاف، ومن تخلى تخلت عنه ورحلت وتركته فارغ هامل لا فائدة فائدة ترتجى منه.
فهم سرقونا مررا، وما قامت لهم قائمة إلا بعد أن سرقوا خيرات الشرق وامواله وكنوزه، فكانت أساسا لما نراه اليوم ولكنهم مع ما سرقوا، لم تمسهم روح الشرق ورحمته، فكانوا حضارة بلا رحمة.
ومن أراد الحضارة وبحث وجد وتعلم وثابر وصبر عادت له صاغرة.
إبراهيم أبو حويله...