كتّاب الأنباط

الانقراض الخامس: أصداء من ماضي الأرض ودروس للغد

{clean_title}
الأنباط -

د. أيوب أبودية

تحدثنا في مقالات سابقة عن الانقراض الأول والثاني والثالث والرابع الذي تعرضت له الحياة على كوكب الأرض. حدث الانقراض الأول قبل نحو 443 مليون سنة وأثر على الحياة البحرية بشكل كبير بفعل انخفاض درجة الحرارة واتجاه المناخ العالمي نحو البرودة. فيما حدث الانقراض الجماعي الثاني، منذ نحو 375 مليون سنة. أما الانقراض الجماعي الثالث في تاريخ الأرض، والمعروف بعصر الموت العظيم، فحدث منذ ما يقرب من 252 مليون سنة، وقضى على 96% من الأنواع البحرية ونحو 70% من أنواع الفقاريات الأرضية، مما جعله أفظع انقراض في تاريخ الأرض. أما الانقراض الجماعي الرابع فكان بمثابة نقطة تحول مهمة في تطور الحياة منذ نحو 201 مليون سنة وأعاد تشكيل مسار الحياة على كوكبنا. ويكشف الخوض في تاريخ الانقراضات وتبعاتها عن دروس قيمة تتناسب مع التحديات التي تواجهها البشرية اليوم.

يسمى الانقراض الخامس في تاريخ الأرض الانقراض الطباشيري-الباليوجيني. وهو حدث أعاد تشكيل الحياة على الأرض منذ نحو 66 مليون سنة، حيث شهدت الأرض واحدة من أهم وأسرع الانقراضات الجماعية في تاريخها. ويمثل هذا الحدث حدًا حاسمًا في الزمن الجيولوجي فقد أبهر العلماء والجمهور على حدٍ سواء، إذ يرجع ذلك في المقام الأول إلى ضحاياه الأكثر شهرة:، وهي الديناصورات، وبأعداد هائلة جدا، وخلال فترة زمنية محدودة جدا.

لم يكن الانقراض الخامس ملحوظًا في زوال الديناصورات فحسب، بل أيضًا في الاختفاء الواسع النطاق للعديد من الأنواع الأخرى. إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 75% من جميع الأنواع اختفت، بما في ذلك الزواحف البحرية المختلفة والأمونيتات والعديد من أنواع النباتات والكائنات الحية الدقيقة. كان لهذا الموت الجماعي آثار عميقة على التنوع البيولوجي للكوكب والمسارات التطورية اللاحقة للحياة على الأرض.

فما هي أسباب هذا الانقراض، وكيف نتعلم منه؟

يُعتقد على نطاق واسع أن السبب الرئيسي لهذا الحدث والانقراض الذي تلاه هو تأثير كويكب ضخم اصطدم بالأرض. تم اقتراح هذه النظرية لأول مرة في عام 1980 من قبل فريق بقيادة الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل لويس ألفاريز. إذ اكتشفوا طبقة عالمية من الرواسب الغنية بالإيريديوم، وهو عنصر نادر على سطح الأرض ولكنه متوافر بكثرة في الكويكبات، ويعود تاريخه إلى نحو 66 مليون سنة. قدمت هذه الطبقة الرسوبية الأدلة الأولى على تأثير اصطدام الكويكب بالأرض في المكسيك.

وجاءت أدلة أخرى مع اكتشاف فوهة الاصطدام في خليج المكسيك. هذه الحفرة التي يبلغ عرضها 150 كيلومترًا، والتي تشكلت بواسطة كويكب يقدر قطره بنحو 10 كيلومترات، تطابق عمر حدودث الكارثة. فقد أدى الاصطدام إلى إطلاق طاقة أكبر بملايين المرات من طاقة القنبلة الذرية، مما تسبب في موجات صدمية هائلة وعواصف نارية وأمواج تسونامي. ومن المحتمل أن الأحداث التالية شهدت إطلاق كميات هائلة من الجسيمات والغازات في الغلاف الجوي، مما أدى إلى سيناريو "الشتاء النووي" حيث تم حجب ضوء الشمس، مما أدى إلى تعطيل عملية التمثيل الضوئي وأدى إلى انخفاض كبير في درجة حرارة الأرض، وبالتالي موت النباتات والديناصورات وغيرها.

بالإضافة إلى تأثير الكويكب، ساهم النشاط البركاني الكبير خلال هذه الفترة أيضًا في سيناريو الانقراض. فكان من الممكن أن تساهم تدفقات الحمم البركانية الواسعة وإطلاق الغازات البركانية في تعظيم الكارثة، بما في ذلك إطلاق غازات مثل ثاني أكسيد الكبريت وثاني أكسيد 

الكربون، إلى تغيير المناخ بشكل أكبر، مما أدى إلى تفاقم تأثيرات التبريد مع الأمطار الحمضية وتعزيز تأثير الاحتباس الحراري بمجرد استقرار الغبار.

كانت العواقب المباشرة للانقراض الخامس شديدة. مع اختفاء الديناصورات والعديد من المنافسين الآخرين، فتُركت الحياة المتنوعة الأخرى كي تزدهر، مما مهد الطريق لظهور الثدييات والطيور كحيوانات برية مهيمنة. وشهدت هذه الفترة تطورًا سريعًا وتنوعًا لهذه المجموعات البيولوجية، مما أدى إلى ظهور النظم البيئية الغنية بالأنواع التي نراها اليوم.

كما شهدت النظم البيئية البحرية تغيرات كبيرة. إذ سمح انقراض الحيوانات المفترسة المهيمنة، مثل الزواحف البحرية العملاقة، للأسماك والثدييات بأن تصبح الفقاريات البحرية السائدة. وانتعشت الشعاب المرجانية في نهاية المطاف وتوسعت، مما أدى إلى خلق موائل جديدة لمختلف أشكال الحياة البحرية وأنواعها.

لا تقدم دراسة حدث الانقراض الخامس نظرة ثاقبة حول مرونة الحياة وقدرتها على التكيف فحسب، بل أيضا حول التهديدات المحتملة التي يمكن أن تشكلها الأحداث السماوية على الحياة على الأرض. وتؤكد هذه السابقة التاريخية أهمية مراقبة الأجسام القريبة من الأرض وفهم المزيد عن التاريخ الجيولوجي والبيولوجي لكوكبنا.

فباختصار، يمثل حدث الانقراض الخامس في العصر الطباشيري لحظة محورية في تاريخ الأرض؛ لحظة أنهت عهد الديناصورات ومهدت الطريق لازدهار أشكال الحياة الحية الجديدة التي نعهدها. إنه بمثابة تذكير بالطبيعة الدينامية والكارثية في كثير من الأحيان للتاريخ الجيولوجي والتطوري للأرض، لذلك ينبغي توقع الانقراض السادس المقبل في نهاية هذا القرن، والاستعداد له. وهو موضوع حديثنا في مقالة قادمة.

تابعو الأنباط على google news
 
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الأنباط © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الأنباط )