الأنباط -
للكاتبة اللبنانية براءة الأيوبي
من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/ 2022
قراءة بديعة النعيمي
شهدت الساحة العربية أحداثا سياسية متعاقبة ومتسارعة أفرزت ما سمي بالربيع العربي والذي طال أكثر من بلد عربي ابتداء من تونس وانتهاء بسورية. حيث كان الشارع فيها نقطة انطلاق لثورات نادت بسقوط الأنظمة. فجاء القتل والتدمير والنزوح ولجوء الشعوب إلى بلدان أخرى وما رافق ذلك من مشاعر تمزق للهوية وفقدان الذات على أرض جديدة تنكرت لهم وتنازلت عن مخيمات حُشروا فيها تفتقر لأقل الحاجات الآدمية.
ومسألة الهوية من الموضوعات الهامة التي شغلت بال الروائيين. حيث أن الرواية هي الأقدر على التعبير عن الواقع المعيش في أوطاننا الممزقة والاقتراب من الذات العربية والوقوف على إشكالية الهوية.
ونحن أمام عمل جعل من الهوية مادة أساسية له حيث نجد الكاتبة براءة الأيوبي قد تفاعلت مع الواقع وجعلت عملها أرضا خصبة طرحت من خلالها موضوع الهوية والذات وتأثيرات الحرب واللجوء على الشعوب دون ذكر للبلد الذي دارت فيه أحداث الربيع العربي أو حتى ذكر للبلد المضيف.
والهوية في علم النفس صورة الشخص عن ذاته ،كما تمثل التساؤلات التي يطرحها الشخص للبحث عن كينونته وهويته، ولا تحدد الهوية إلا من خلال البيئة والوسط الذي نشأ فيه من خلال الانتساب إلى مجموعة يتشارك معها الميول والتطلعات والأفكار والعادات والتقاليد. وتعتبر الهوية الفردية محور الدراسات في علم النفس بعكس علم الاجتماع الذي يهتم بالهوية الجماعية.
وبينما الذات وعي فردي فالهوية وعي جماعي والوعي بالذات يرتبط بالوعي بالهوية والانتماء ،فنحن لا نعي ذواتنا إلا من خلال الهوية ولا تتكون الهوية إلا من خلال هذا الوعي.وكل اختلال في الذات يحدث إضطرابا في الهوية.
وقد جاءت رواية حياة ترف للكاتبة الأيوبي لنقل الانكسارات النفسية لتلك الشريحة المهمشة من اللاجئين المنخرطة رغما عنها في تيه فقدان الوطن والذات وبالتالي الهوية، وسط رفض الواقع لهم في بلد يعاني أزمات اقتصادية ليجدوا الآفاق أمامهم مسدودة وبلا هوية.
صنعت الأيوبي من أسرة صقر والد ترف أنموذجا مصغرا ليمثل بمعاناته وانكساراته وصراعه النفسي آلاف النماذج التي مرت في الواقع بنفس الظروف وأكثر لشعوب عاشت مأساة الحرب وتيمة الحرب شوهت ذوات هذه الشعوب وجعلتها متشظية تائهة تشعر بالنقص وعدم الانتماء،ذوات متأزمة مشوشة الرؤية يئجعلها جحيم الحرب تبحث عن أوطان جديدة تحتويهم وترمم تصدع ذواتهم. ففي ص66على لسان ترف( يا إلهي كم هي بعيدة هذه الحدود،وكم هو كبير ذلك الحلم المعلق خلف عتباتها..هناك سنستعيد ذاتنا التي كانت،سنرمم أمنياتنا).
وحيث أن الأسرة هي الوطن الأول الذي تنتمي له ذواتنا ونستمد منه هوياتنا فإن أي خلل في التنشئة تفرز عقدا وأزمات نفسية تبقى ملازمة لتلك الذوات وبالتالي تدخل الشخصية في حالة اغتراب وهو شعور نفسي وليس مادي يبعدها عن واقعها ويجعلها تائهة حائرة، دائمة العزلة حتى عن أقرب الأشخاص منها وهو أشد أنواع الاغتراب تأثيرا على الذات.. وهذا ما سيجده المتلقي لرواية حياة ترف حيث البادية هو المكان الأول الذي احتضن بداية الأحداث حيث الحياة البسيطة والسعيدة التي عاشتها بطلة العمل ترف في ظل والدها صقر ووالدتها نوف إلى أن يحل يوم الرحيل بعد أن فقد البلد أمنه بسبب انتشار عصابات مسلحة تقتل وتنهب وتغتصب ولا تعرف الرحمة طريقا إليها فيلجأ صقر والد ترف إلى اتخاذ قرارا صعبا وهو مغادرة الوطن وترك كل شيء إلى أرض جديدة نشدانا للآمان. ففي ص41 على لسان ترف تتحدث عما سمعته من رجال القرية الذين اجتمعوا في بيتهم( كلمات مبعثرة وسط أحاديث طويلة تمكنت من التسلل إلى مخدعي فدكت هدأتي وأوردتني في هلع :عمليات سلب..مسلحون..ارتحال). وفي ص68( مسلحون ،عمليات خطف واعتقال ..منازل مدمرة ،كلمات سمعتها تتردد مفادها أن ثمة مارد مجهول الهوية يتربص بالأهالي في كل مكان من أرض الوطن ولا وسيلة لصرفة أو التخلص منه سوى بالفرار السريع).
تتكرر إشكالية الهوية طيلة صفحات الرواية تعبيرا عن أزمة الذات والوطن وكانت هذه الإشكالية تتصل مع البطلة ترف التي تعيش حالة انفصال مع ذاتها وهويتها فوالدها المشلول الذي كان موضع ثقتها وتبعته دون خوف عند الرحيل أصبح اليوم عاجزا مشلولا على كرسي متحرك ينزوي عن العالم في زاوية منزل الصفيح كأنما يهرب من الواقع ففي ص205 تصور والدها وما أصبح عليه من لا مبالاة بسبب وضعه ( ولكن ثمة أزمة نفسية سلبت منه وهج الحضور وجعلته يتوارى خلف جدار الصمت الثقيل..بات يرى بؤس أمي..فينغمس في عمق مأساته متناسيا أوضاعها).
وقد أبرزت الكاتبة العلاقة بين الأبناء والأمهات التي كانت تتميز سابقا بالحب والاحترام والعطف وانقلبت بعد اللجوء إلى نفور وجلد للآخر لأقل زلة ففي ص156-157 على لسان ترف( هذا ليس صوت أمي ولا تلك نظراتها! حتى كلامها الثقيل بدا لي وكأنها استعارته...وهي تلعن وتشتم ..بعد سطوة هذه الكلمات شعرت أني غريبة عن المكان بكل ما يحويه وحتى عن ذاتي). وهذا بحد ذاته اغتراب تحاول ترف البحث عمن يعوضها هذا الاغتراب فتجده بداية مع الحجي فنجدها في ص158 بعد كلمات أمها القاسية ( غادرت مكاني دون أن أظهر أي احتجاج..وسرت على غير إدراك..وجدتني كعادتي في لحظات الضعف أقف أمام كشك الحجي والدموع ترسم..غادرت مكاني وشكرته على سكينة انسربت إلي رغم صمت لقائنا).
ثم تجد الأمان عند العم عدي الذي التقت به يوما عند شاطئ البحر لكننا نكتشف في النهاية أنها شخصية ابتدعها خيالها للهرب إليها كلما عصفت بها الأيام ففي ص165 تقول عن هذه الشخصية التي صنعتها وتعلقت بها ( برغم غموض استشرى بين كلماته إلا أن استجابته لسؤالي وعدم لجوئه إلى تجاهل استفهامي حمل إلي تفاؤلا بتقارب محتمل بيننا).
وتعيش ذات ترف كذات معزولة فاقدة للأمل ومعلنة عن وحدتها وغربتها وضياع هويتها ففي ص18 على لسانها( تسع سنوات منذ أن غادرتني الأحلام وغدرني الزمن وأنا أعاني شتات الروح وفقدان الهوية). وفي ص22 تقول( هذه أنا..أفتقد الرضا عن الذات وواقعي يكبلني بألف عقدة ويحيلني ريشة في مهب الريح).
كما نجحت الكاتبة الأيوبي في طرح الهوية وإشكالية الاختلاف ابتداء باختلاف اللهجة وتتضح لنا هذه الإشكالية في كلمات ترف ص22( دائما ما أكون بسبب مظهري ولهجتي الريفية_البدوية محط استهزاء من زميلاتي في الصف).
أما إشكالية اللون فنجدها ص96 وما جاء على لسان ترف( أما عن لون البشرة فلا أحد يشبهنا مطلقا نحن كسوانا من أهل قريتنا ببشرة سمراء مع إحمرار يزيد من قتامتها...ساكني هذه الأرض..بشراتهم بيضاء وقمحية وسمراء..فعلا نحن مختلفون).
أما إشكالية اللباس فنجد الكاتبة وقد طرحتها ص96( النساء عندنا مختلفات ،وجميعهن كأمي يتنقلن ب الدفة وهي عبارة عن عباءة سوداء ومعها الشيلة كغطاء على الرأس..حتى ملابسي لا تشبه ما عاينته في الفتيات الصغيرات).
وترف البطلة كانت شاهدة على مأساة من يقطنون المخيم فكان مشهد هذا المخيم هو المهيمن على السرد. حيث جاء وصف لأبشع مشاهد الحياة هناك حيث انعدمت الإنسانية ومما جاء على لسانها ص24( شوارع المخيم تنبض قذارة..هي مكان للضياع والانغماس في كل أنواع الموبقات) وفي موضع آخر من نفس الصفحة( نحن اللاجئون نعيش هنا خارج مدار الإنسانية). وموضع آخر من نفس الصفحة تصف بيت خلاء منزلهم ( أما عن بيت الخلاء فتستحيل إمكانية الاختلاء فيه..هو جزء كبير من القاعة الكبيرة..وفي كثير من الأحيان يحدث أن تتقيأ الحفرة كل ما فيها ويغرق المنزل في دنس ومأساة).
وبطلة الرواية ترف تضيع ذاتها في قذارة المخيم وهنا تكون قد فقدت الانتماء وهنا يبرز التصدع في الهوية ونستشعر هذا ص157من كلمات ترف( وخسرت ما تبقى منها في مخيم يضم بين أركانه جميع مقومات الدمار النفسي وتشتت الهوية والانتماء).
ونجد بأن مأساوية المخيم وعدم تقبل المجتمع لها كما بقية أبناء المخيم جعلها تتوق للرحيل والعودة إلى الوطن على امل استعادة الذات والهوية وهذه الخطوة نجدها في الفصل الموسوم ب العودة ففي ص241 نجد ما جاء على لسان ترف ( فعلا نحتاج إلى عودة سريعة نلتئم بها مع جذورنا..تفرغنا من هزائمنا النفسية وتجعلنا نستعيد ذاتنا الساكنة).
فالعودة هي الحل الذي تتوصل له ترف وان البعد عن الوطن لأوطان أخرى كارثة حقيقية فنجدها تركب البحر مع لوليه المرأة التي احتضنتها بعد موت والدها وعودة والدتها مع أخوتها إلى الوطن لتجد طمع سماسرة البشر وسط الأمواج التي لا ترحم في زورق غدار مع كتلة بشرية من أبناء وطنها ليكون مصيرهم واحدا مصير سوداوي لأناس خاضوا غمار الخطر لاستعادة جذورهم.
بقي أن نقول بأن الكاتبة اعتمدت تقنية الاسترجاع والتي مصدرها الذاكرة حيث تعود البطلة ترف إلى ماضيها وطفولتها وظلها الذي تركته هناك في باديتها التي تحب ،ظلها الذي كان يؤنسها ولا يشبه تلك الظلال المزيفة في أرض اللجوء.
كما أن من أهم الظواهر الأسلوبية التي بنت عليها الكاتبة روايتها التكرار الذي كان الهدف منه التذكير بالأحداث مثل التذكير بحياة المخيم والتأكيد على تمزق الهوية وفقدان الذات والانتماء بسبب الظروف غير الإنسانية في جميع زواياه،شكله،بؤسه،ناسه......