الأنباط -
عندما تتعمق في قراءة تفاصيل نشوء الدولة الأردنية وأعني هنا الدولة بشكلها البنيوي تعي جيدا أن الأسس التي قامت عليها كانت قوية ومتينة تقوم على النزاهة والشفافية والإدارة الرشيدة وذلك في عدة مجالات إقتصادية وإجتماعية وثقافية وغيرها.. وترى أن الدولة الأردنية بخطاها الثابتة في فترات نشوئها كانت محط أنظار كل من حولها، ومن عاش تلك الفترة يعي جيدا أن معظم دول المنطقة من الخليج العربي والشرق الأوسط ولا أبالغ إذا قلت حتى بالعالم كان الأردن لها مثالا في الإدارة الحصيفة بل وعلمها وشارك ببناء تلك الدول وتشكيل حكوماتها وتدريب جيوشها والتي نراها الان من الدول المتقدمة بكافة مناحي الحياة .
لكننا وبعد دخول الدولة الأردنية عامها الأول بعد المائة وبعد التعمق في مسيرة المئوية، نجد أن هذه الأسس والقواعد التي بنيت عليها الدولة قد اهتزت ولم تعد ثابتة كما كانت، ليحل مكانها "رويبضة" العصر الحديث فبدل أن نسمع صباحا "عمان أرخت جدائلها فوق الكتفين" لترتقي الاذن ويعلو الوجدان ونثبت بأذهان شبابنا أن عمان المدينة الوحيدة المسموح لها التلاعب بجدائلها فوق أكتافنا.. أصبحنا نصحو على صوت ومنشور لفتاة عابثة تستدرج عواطفنا ونخوتنا لتستثمرها ... و
عندما كانت سمائنا تلوح بنهيق من عدونا الوحيد الأوحد.. كنا نستمع في الشوارع والمقاهي وأماكن العمل بالراديو الى صوت السنديانة سميرة توفيق "أردن الكوفية الحمرا أردن الجبهات السمرا .. والفارس لوح للفارس والخيل تحمحم للغارة".. لكننا الان نرى ذات العدو يهدد ويتوعد ويعربد ويكرر علنا انه لم يعد يكترث بالإتفاقيات معه.. والشهداء والأسرى بتزايد مستمر.. لكننا لم نعد نسمع "الخيل تحمحم للغارة".. بل نتجمع بالاّلاّف لنسمع من يغني شب عار والأنكى نشتري تذاكر لهم لنرى ونسمع عهر الحداثة والعصرنة .
كان عندنا فلاح المدادحة ويحيى الموصلي وعبدالهادي المجالي ومصطفى القيسي وذياب يوسف وبهجت طبارة وغيرهم العديد من رجالات المنظومة الأمنية والسياسية والاجتماعية التي حافظت على الوطن بأصعب الظروف التي إنهارت لأجلها دول أخرى وحدث بها إنقلابات وعمت بها الفوضى ليظل الأردن عنوانا للأمن والإستقرار.. نرى الان رجالات تخضع لتلفون أو"مسج" من منتج فني "مدعوم" وزبانيته الذين يستقدمون للوطن إعلاميات غير معروفات حتى في مسقط رأسهن وفنانات لا يظهرن على مسارح بلادهن.. من رجالات ذات المنظومة حديثا بعض من يتاجر بالوظيفة لتراه بعد التقاعد صاحب مولات وتجارة وهو دخل الوظيفة بعد تخرجه من الجامعة وتقاعد حديثا بينما وزيرداخلية أسبق مات وهو مديون للمستشفى الذي مات فيه بأجرة علاجه.
كان عندنا حياة تشريعية مميزة بالعلاقة الندية بين النواب والحكومة وتجد نوابا مثل سليمان النابلسي ويعقوب زيادين وكامل عريقات ورؤساء حكومات مثل هزاع المجالي ووصفي التل والذي كان المواطن يطرب لسماع المناقشات النيابية بينهم كأنه يستمع الى سيمفونية سياسية وليس كما نسمع هذه الأيام من ترهات ومهازل لسياسيين ونواب حاليين .
فما الذي أوصلنا الى هذه المرحلة بعد أن كنا كما كنا دولة تتحدى العالم في كرامة مواطنيها ولقمة عيشهم ورجالاتها الاوائل قوميين عروبيين منهم من استشهد لأجل قضيته ومبادئه ومنهم من مات على فراشه ولم يبدل تبديلا، الأن نشهد توهانا كبيرا في الوجدان والذوق العام.. ولم يعد الوطن وطنا ولم تعد الرجالات رجالا بل أصبحنا وكأننا نعيش في شركة.. هناك من ينتظر حصته من الأرباح غير آبه بالخسارة التي يعيشها الوطن والذي يدفع ثمن خسارته فقط الحراثين وأبنائهم اما باقي تجارالوطنية فحقائبهم جاهزة للرحيل حال إعلان الخسارة.