سالم قبيلات
يعد يوم 20 أب في المجر أو هنغاريا حاليا، عيدًا وطنيًا، وذكرى تأسيس الدولة، ففي هذا اليوم من كل عام يحيي المجريون احتفالات شعبية ورسمية واسعة، يشارك فيها كافة فئات الشعب بالاحتفال في الساحات العامة وتقديم عروض الرقص الشعبي والغناء الفلكلوري وإنشاد الأشعار التي تمجد انجازات القادة التاريخيين وغيرها من مظاهر التعبير عن الابتهاج والاعتزاز بذكرى تأسيس الدولة المجرية وإحياء ذكرى مؤسسها الملك استيقان الأول.
وهذا العيد هو أشهر الأعياد الوطنية والعطل الرسمية للدولة المجرية. فهو واحد من ثلاثة أعياد سياسية اعتمدتها المجر في عهد الجمهورية الثالثة.
ظهرت إمارة المجر باعتبارها مملكة مسيحية إبان تتويج أول ملك لها "الملك ستيفان الأول، حوالي سنة 1000م ، وهو من سلالة أسرة (ارباد). وقد كانت المجر متعددة القوميات منذ إنشائها، وبحلول القرن الثاني عشر، أصبحت قوة أوروبية وسطى فاعلة داخل العالم المسيحي الغربي. ونجحت في حكم منطقة شاسعة من شرق و وسط أوروبا، ضمت بالإضافة إلى هنغاريا الحالية كل من سلوفاكيا وترانسيلفانيا وكرواتيا وشمال صربيا، وقد توجت إمبراطورية يوم عيد الميلاد سنة 1000، تحت ملكها ستيفان الأول (الأمير العظيم) الذي حكم البلاد من عام 997 إلى عام 1038 ، الذي خلف حكم والده الأمير الأكبر جيزا (Géza).
امتد حكم آسرة (ارباد) إلى عام 1301م، وانتهى بوفاة الملك اندراش الثالث، ويعود تسمية حكم الأسرة بهذا الاسم، نسبة للأمير الأكبر (Arpád) الذي كان رئيس اتحاد القبائل التي غزت حوض الكاريات. ومن الجدير ذكره إن آسرة ارباد كانت وثنية المعتقد، وتحت قيادتها استوطن المجريون في حوض الكاريات عام 895م، وأسسوا إمارة المجر (896-1000). وخلال هذه الفترة اعتنق المسيحية (الأمير الأكبر جيزا)، ومع تولي الأمير ستيفان الأول الحكم خلفا لوالده، تحولت الإمارة إلى مملكة مجرية مسيحية موحدة، امتدت على كامل حوض الكاريات.
تميز الملك ستيفان الأول بقدرته على وضع الأهداف السياسية في الاعتبار،ولهذا نجح في تسوية العلاقة المجرية البيزنطية السيئة، وبفضل حنكته السياسية انتهى عصر الحروب الأهلية، وأصبح فعليًا سيدا مطلقا للبلاد يحظى باتفاقيات سلام مع جيرانه. ونشطت في عهده حركة بناء الاديره والكنائس التي باشرت بتعليم الكتابة باللاتينية، واحتضنت المدارس التي أصبحت مراكز روحية للثقافة، وحافظت على الحرف التقليدية والمهارات الفنية والثقافة الفكرية والمخطوطات القديمة داخل مدارسها ومكتباتها، وكانت أيضًا مركز إنتاج زراعي واقتصادي، لاسيما في المناطق الريفية النائية.
ويسجل له أيضا إنشاء أول مدونة مجرية للقوانين طبقا للنموذج الألماني مع مراعاة خصوصية المجر. حيث نصت القوانين على إلزامية حضور قداس الأحد، وحماية الملكية الخاصة وإلغاء زواج الأخ بأرملة أخيه، وتم وضع تشريعات جديدة للتنظيم الإداري وأسس جديدة للتقاضي، وفرضت الضرائب الأولى في البلاد، واعتمد الدينار الفضي في التداول.
كما ألغى النظام الاجتماعي المبني على أساس الدم، واستبدله بتنظيم الإدارة على أساس إقليمي. ما سمح للشعوب الرحل (البدو) بالاستقرار وكسب العيش من الأنشطة الزراعية، ففي عهده لم يحدث تغيير سياسي فحسب، بل خضع الشعب المجري أيضًا لتغيير كبير في نمط الحياة. حيث يعد قراره بافتتاح طريق الحج في عام 1018خطوة ذكية وعلامة فارقة، عندما اعتمد طريق الحجاج من أوروبا الغربية إلى الأراضي المقدسة عبر المجر، فأضحت المجر معقلا بارزا من معاقل العالم المسيحي، وهو ما شجع بعض الحجاج التجار على الاستقرار الدائم في المجر، مما عزز النشاط الاقتصادي.
في نهاية حياة الملك استيقان، جرت محاولة لاغتياله من قبل نبلاء القصر، وتقول الرواية "عندما تسلل النبلاء ليلا إلى غرفة نوم الملك لانجاز مهمة القتل، سقط السيف على الأرض من شدة الرهبة من شخصية الملك، فأيقظ صوت السيف الملك وفشلت المحاولة". وكعقوبة لهم على محاولتهم الفاشلة قطع "أذرعهم الخاطئة". وبذلك أظهر مرة أخرى وهو في أواخر أيامه، القدرة على حكم البلاد بيد قوية.
يعد الملك ستيفان الأول أحد أهم رجال الدولة في تاريخ المجر بانجازه الرئيسي وهو بقاء المجريين في حوض الكاريات (بانونيا) إلى يومنا هذا، على عكس الشعوب الأخرى التي سيطرت في السابق على نفس المنطقة، ثم اختفت. كما منح مملكته الفتية عمرا، أربعين عاماً من السلام النسبي والحكم القوي وأصبح أحد أشهر القديسين المسيحيين الشعبيين في المجر والدول الأوروبية المجاورة.
تعرضت مملكة المجر عام 1241 للغزو المغولي الذي أضعفها ودمر جيشها ، حيث عاشت فترات متذبذبة من القوة والضعف حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، عندما سيطر العثمانيون على معظم أراضيها في أوائل القرن السادس عشر وحتى أواخر القرن السابع عشر.
ويشار إلى إن مملكة المجر خلال الاحتلال العثماني للأجزاء الوسطى والجنوبية من أراضيها ، قُسّمت البلاد إلى ثلاثة أجزاء: المجر التابعة للنظام الملكي لهابسبورغ، والمجر العثمانية، وإمارة ترانسيلفانيا. وقد ورثت سلالة هابسبورغ النمساوية العرش الهنغاري بعد معركة (موها) في عام 1918، كما لعب المجريون دورًا حاسمًا في حروب التحرير الكبرى ضد الإمبراطورية العثمانية.
اتبعت المجر النظام الملكي من عام 1000م إلى عام 1946م، باستثناء الأعوام (1918-1920). ومن الملفت إن المجر الحالية أو هنغاريا تشكل 30% فقط من مساحة المجر التاريخية، ففي منتصف القرن التاسع عشر، انخفض عدد سكان المجر إلى أقل من النصف وتقلصت المساحة إلى الثلث، ابتداءً بسبب التسويات الدولية لنتائج الحرب العالمية الأولى، وفقا لمعاهدة (تريانون) التي عاقبت المجر بقسوة على دورها في الحرب العالمية الأولى، وانتهاءً بسياسات إعادة التوطين والهجرة المستمرة مع البلدان المجاورة. وقد أدت التغيرات الإقليمية الكبرى إلى التجانس العرقي للمجر، فاليوم فإن أكثر من تسعة أعشار السكان مجريون عرقيًا ويتكلمون اللغة المجرية بصفتها لغة الأم.
هنغاريا اليوم،هي دولة عضو أصيل في الإتحاد الأوربي، تقدم مستوى متطور من الخدمات لمواطنيها وبكفاءات تنظيمية عالية، وتملك أحد أعلى مستويات المعيشة في شرق أوروبا. وتعد مقصداً مغريا للزائرين الذي يبحثون عن ما أنتجته الحضارات من آثار فنية وهندسية معمارية في مختلف مدنها وبلداتها التي تزخر بالإرث الثقافي والفني الحضاري. وتتمتع هنغاريا أيضا بسمعة عالمية مرموقة ومعايير عالية في التعليم، حيث خرجت جامعاتها ومعاهدها عشرات الآلاف من الخبراء والكوادر العلمية المؤهلة، لما يقارب مئة جنسية.
كما إن تجربتها الناجحة تحظى باهتمام بالغ ومتابعة من كافة دول العالم، كخلاصة لمشوار طويل من الكفاح على طريق التنمية المستدامة وبناء الاقتصاد المتين وإرساء العلاقات السياسية المتوازنة والمتكافئة مع كافة دول العالم.