على مدى الاعوام السابقة تحّول العالم تدريجيا من اللامركزية الى المركزية في التوريد والتزويد بمعنى أن دول العالم كانت سابقا تعتمد على أنفسها في تلبية إحتياجاتها الزراعة أولا والصناعية بعدها والتجارية ثم الخدمية أي كانت تعمل تحت منظومة الاكفتاء الذاتي. تطوّر العالم وتعقدت الادوات وزادت الاحتياجات وتسارع النمو السكاني وتوسعت الفجوة ، وإذا بالتكنولوجيا تظهر فكنا نتواصل بكتابة الرسائل واليوم طرق التواصل التكنولوجية لا محدودة وأصبح العقل لا يستوعبها بظهور الذكاء الاصطناعي ، كنا نكدس المواد الخام ونحتفظ بالمخزون الغذائي والسلعي على مدار العام ووصلنا الى مرحلة لا يوجد أي مخزون لاننا لا نحتاجه بظهور منظومات سلاسل التوريد المصحوبة بالادوات التكنولوجية بحيث تصل حاجاتنا من المواد الخام والقطع المصنعة في وقتها وتدخل في دورة الانتاج ، كما وأن دورة الانتاج أصبحت مرتبطة بالعرض والطلب في وقته Just In Time . كنا نتنقل ودائمي الترحال بين الاماكن والدول لانجاز الاعمال وها نحن وبجلوسنا بمكاننا ننجز أعمالنا وكأن العالم غرفة في المنزل ، ولم يكن أياً منا يتوقع أن يتوقف العالم في وقت واحد وتضرب منظومة سلاسل التوريد والتزويد هذه في العمق لتحدث الصدمة ، فأين نقف اليوم ؟
لقد وصل الدين العالمي الى حد الجنون مع نهاية عام 2020 وإلى مستوى قياسي بلغ 281 تريليون $ شكلت نسبته 355% من الناتج العالمي الإجمالي على الحكومات والقطاع الخاص والافراد وبزيادة بواقع 35% عن عام 2019 ، فيما بلغت نسبة الدين العام على الحكومات 88 تريليون $ لترتفع الى 105% وبزيادة 20% ، وللعلم القطاع الخاص وصلت به النسبة الى 165% . وتم تسجيل أعلى مستوى للدين العام بشكل رئيسي بين الدول المتقدمة مثل اليابان – 234%، بريطانيا- 144% ، الولايات المتحدة – 160%، منطقة اليورو – 120.4%”. . واليوم وزيرة الخزانة الأمريكية تطلب رفع الحد الأقصى للديون الاتحادية قائلة إن التخلف عن سداد ديون الولايات المتحدة سيثير أزمة مالية تاريخية ، والصين تواجه بوادر تعثر مجموعة إيفرغراند، وهيَّ ثاني أكبر مطور عقاري في الصين وتعمل في أنشطة أخرى كالطاقة المتجددة والسيارات، و ديونها تتجاوز 300 مليار دولار ، وبريطانيا تواجه تحدي كبير في الطاقة حيث أدت قفزة أسعار الغاز إلى توقف العديد من شركات توريد الطاقة المحلية عن العمل، وإغلاق مصانع الأسمدة التي تنتج أيضا ثاني أكسيد الكربون، والذي يستخدم لصعق الحيوانات قبل الذبح وإطالة العمر الافتراضي للطعام ، فكيف ضربت منظومة سلاسل التوريد العمق ؟
بغض النظر من هي أطراف العلاقة في سلاسل التوريد وبغض النظر عن المادة أهي أدوات مالية أوغاز أو نفط أو ماء أو خدمة أو حتى قوى عاملة ، فكلها أطراف لربط حلقات الوصل بين العرض والطلب من خلال منظومة سلاسل التوريد والتزويد ، فالمركزية في التوريد أعطت المورد والناقل والادوات المساندة القدرة على التحكم بإكتمال دورة العرض والطلب ، منه ما هو إحتكاري وإستغلال ظرف وتحقيق عوائد أكبر ، ومنه ما هو سياسي وتغير في مراكز القوى الدولية ، ومنه ما هو مسلّم به نتيجة الظروف التي افرزتها الجائحة وما تبعها من تحديات الشحن ، وتعطل القوى العاملة ، وإنخفاض المخزون الاستراتيجي في الدول ، وتحديات التغير المناخي والامن السيبراني ، وتغوّل التكنولوجيا ، وإرتفاع مديونيات الدول بحجم أكبر بكثير من إقتصادها . كل هذا يأخذ العام الى العودة الى اللامركزية والتحول من التوريد في الوقت المحدد الى التوريد بغرض التحوط ، From Just in Time To Just In Case . وبدت الدول تعيد حساباتها وتتحوط أولا للاكتفاء الذاتي والاعتماد على مواردها وتطويرها والاستثمار أكثر بها ، وإستغلال مزاياها التنافسية لتكون الاولوية لها قبل غيرها ، فاصبحت الدول تفرض قيود وشروط ورسوم إضافية على الاستيراد والتصدير والعلاقات الدولية .
الاردن وعلى الرغم من محدودية موارده مقارنة بالدول العالمية لم تنقطع الكهرباء عن أي مواطن ، ولم تفرغ أي محطة من وقودها ، ولم تنقطع أي وسيلة إتصال أيا كانت ، ولم يفرغ أي رف في محل من بضاعته كما هو الان يحدث في دول عظمى ، وعجلة الانتاج مستمرة حتى في فترات الاغلاقات السابقة ونتائج تقرير ممارسة الاعمال عن عام 2020 والذي أصدره البنك الدولي وما خرج عنه من نتائج حديثة مؤخرا يثبت صدارتنا وحكمتنا . هذا كله لم يأتي من فراغ فقد أنجزت الاردن وعلى مدار مائة عام مضت الكثير وها نحن نحتفل بدخول المئوية الثانية ، ولكن هذا كله يحتاج منا الى التسارع في تطوير أدواتنا والبناء على ما وصلنا اليه ، يحتاج الى إدارة قوية حكيمة في مراكز القرار والمسؤولية قادرة على حمل هَم الوطن على أكتافها ، يحتاج الى التحرك فورأ في الاصلاح الاقتصادي وإحداث الصدمة ، يحتاج الى وأد الترهل الاداري بكافة اطرافه والتحرك الفوري بالاصلاح الاداري بدون عواطف ومحاصصات وجبر خواطر، والاصلاح السياسي عملية مستمرة ولن تنتهي . فالعبرة بالانجاز وبغير ذلك لا مكان لمن يعطل عجلة نمو ورفعة الوطن ، فلنحدث الصدمة الايجابية في منظومة سلاسل التوريد والتزويد بكافة انواعها ، ولنقوى أكثر بما نحن به أقوياء ، والشكوى والتذمر لا مكان لها في المنظومة ، فليكن شعارنا الانجاز ثم الانجاز وبدونه لن نقوى .
حمى الله الوطن قيادة وشعبا وأدام الله علينا نعمه .
m@alqaryouti.com