الأنباط -
يَلينَا نِيدوغِينَا
كثيرًا ما يَستفسر مني المواطنون الروس، من مختلف قوميات روسيا، عن جلالة الملك عبدالله الثاني المُعظم، ذلك أنني أُقيم في الأُردن، ولدي عائلة، وأعمل في المَملكة وإن صارت الأعمال والأشغال مؤخرًا متقطعة ونادرة جدًا كالشمس في ليل بَهيم، بسبب ظروف كورونا التي أدَّت إلى وقف الكثيرين أمثالي عن العمل الثابت في مهنتهم.
دواعي طرح الاسئلة المتلاحقة علي من المواطنين الروس في أحاديثهم التي لا نهاية لها، أن الكثير منهم يجهلون الأُردن، ولا يَعرفون سوى القليل عن المملكة تاريخًا وثقافةً وسياحةً، وفي غيرها من المناحي. أنا أتحدث هنا عن المواطنين الروس بالأعم وبالشمولية، فروسيا بلاد كبيرة المساحة وكثيرة السكان، وليس فيها منبر أردني واحد وثابت للترويج للسياحة والثقافة والوقائع الأُردنية، ويوميات الأُردن وشعبه.
من جهة أخرى، صحيح أن جلالة الملك المُعظم يزور روسيا بين حين وآخر، ويلتقي فخامة الرئيس فلاديمير بوتين، وتجري بينهما مباحثات ومحادثات واتفاقات لتطوير وتعزيز مطّرد للعلاقات الثنائية بين الدولتين، لكن هذا لا يَعني أن جميع الروس، أو حتى أكثريتهم، يتابعون الأنباء السياسية أو يهتمون بِكُليّتهم ببرامج الأخبار، فروسيا الحالية هي غير الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يَفرض على مواطنيه ليس الاهتمام بالسياسة والأيديولوجيا فحسب، بل وأيضًا بممارستها النشطة فعليًا. هذا الأمر لم يَعد أولوية في روسيا المُعَاصِرة، إذ انتقل الاهتمام بالسياسة إلى "درجة متأخرة". ولهذا، ولغيره من الأسباب التي منها عدم توافر برامج ثقافية أو سياحية متواصلة عن الأُردن في محطات التلفزة الروسية، يُوجّه الروس سَيلًا لا ينقطع من الأسئلة لمواطنة مثلي، كاتبة وإعلامية، ومُتخصِصة أكاديميًا بالتاريخ والسياحة الأُردنية، وبالهندسة والبِناء أيضًا، كوني أحمل شهادة جامعية سوفييتية في هذه الحقول.
في المِضمار الروسي، يبدو كذلك أن سَواد المواطنين الروس لم يتعرفوا على التاريخ والجغرافيا والسياحة والثقافة الأردنية بكليّتها، وبالأخص أجيال أواخر الثمانينيات وعقد التسعينيات من القرن الماضي، فمعلوماتهم عنّا هي مُجرّد "نُتَف"، إذ أنهم لا يَعرفون اللغة العربية، وفي الأُردن لا يوجد مراسل للتلفزيون الروسي، ولا تتوافر في روسيا أي حركة ترجمة كُبرى للأدب والثقافة والسياحة الأُردنية وهَلُمَّ جَرًّا، أو للتعريف بالعربية والتاريخ الأُردني، كما كان في سنوات الاتحاد السوفييتي المُنحل، وهذه الحقيقة هي اِنْشِغَالٌ يومي في علاقاتي وأعمالي مع الأُردنيين والروس مِمَّن ينتمون لشتى الشرائح الاجتماعية والمِهن.
في السابق، نشط المَركز الثقافي السوفييتي الذي أقيم في منطقة إستراتيجية في العاصمة عَمّان هي "جبل عَمّان"، فقد كان هذا المركز صاحب هِمَّة عالية، إذ تفوّق على غيره من المراكز الثقافية الأجنبية، وامتد عمله المُزدَحم منذ افتتاحه في عام 1970، إلى إغلاقه المأساوي في سنة 1992. آنذاك، حَفلت مكتبة المركز بعشرات الآلاف من الكتب الروسية والسوفييتية المترجمة للعربية بإتقان مذهل، وعُقدت في قاعاته المُحاضرات والنَّدوات، وأقِيمت الحفلات والاحتفاءات المتتالية يوميًا بكلِ ما في الكلمة من معنى، وعُرضت الأفلام بلا توقف، وشهد المركز كذلك لقاءات مُشرعَة أمام رواده أُقيمت مع مختلف المسؤولين السوفييت، والفنانين، والمُغنين، والعُلماء، والسيّاح، والأبطال السوفييت العَالميين للشطرنج، مِمَّن لعِبوا مع نظرائهم المحليين والهُواة الذين نالوا الميداليات، ورجالات الدين الإسلامي والمسيحي، وفعاليات أخرى كثيرة جدًا، ولا تنتهي، تحمل عناوين لا حدود لها. كذلك، أصدر المركز برنامجًا شهريًا ورقيًا جاذبًا عن فعالياته، لفت إليه بشدة أنظار المواطنين المحليين من جميع الأعمار والمِهن، وعلى كل ذلك يستطيع أن يَشهد المُدراء الأُردنيون السابقون للمركز الذين يَسكنون في عّمان وفلسطين، ضمنهم السادة والإخوة والأساتذة وليد مصطفى، ونِضال مَضية الذي يعمل في القنصلية الروسية، وعبد الهادي الدهيسات، عدا الأديب أديب النمري، الذي الذي توفي بمرض عضال قبل عقدين تقريبًا، رحمة الله عليه.
في 16 شباط المُقبل، تحتفل الدولتان، الأُردن وروسيا، بالذكرى التاسعة والعشرين لاعتراف المملكة الأُردنية الهاشمية بروسيا كوريثة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية. وبهذه المناسبة، وفي سياق هذه المقالة، أعتقد أن تأسيس مركز ثقافي أردني في موسكو، على مِثال المركز الثقافي الروسي الحالي الواقع في جبل عمّان أيضًا، ونشر فروع له في مدن رئيسية على مِثال، سانت بطرسبورغ، قازان، نيجني نوفغورود، ويكاتيرينبورغ، سيغدو نقلة نوعية من شأنها التعريف الأشمل بقيادتي وشعبي البلدين، ولتطوير أوسع للعلاقات الشعبية والاجتماعية والسياحية وغيرها من أوجه التبادلات بين الأُمتين والدولتين الصديقتين.