الأنباط -
يرحل البعض عن هذا العالم فيبتهج برحيله بعض من ظلمهم واضطهادهم، لكنّ ثمة آخرون ترحل مباهج الدنيا حين يرحلون، أشخاص اختارهم الموت ولم يختاروه، لكنّهم مع ذلك تغلّبوا عليه فقهروه؛ فظلّوا أحياءً يرزُقون من خلفهم بفيض ما تركوه وراءهم من عطر السيرة ونظافة المسيرة.
عرفة علي كمال الدين، شخص ربّما لا يعرفه في هذا العالم بضع عشرات من الناس من أهله وأقاربه وأصدقائه ولم يخسر بسبب ذلك شيء، لكنّ المؤكّد أنّ من لم يعرفه قد فاته خير كثير، إذ لم يرى طيبة القلب مع الشراسة في الحقّ، وضيق ذات اليد ونظافتها مع عزّة النفس وكرامتها، والخصاصة مع عظمة الإيثار؛ وهي تتجلّى في شخص واحد إذا أحب أعطى وإذا أُسيء له سمح وصفح.
عرفة صديق عمري الذي امتدت علاقتي به لأكثر من ربع قرن من الزمان وستظلّ إلى أن ألتحق به، كان إذا أحب صدق ووثق، لذلك غمرني بفيض محبّته حينما قال لي وهو ينتظر ابنه الأول أنّه سيسمّيه على اسمي، على الرغم من أنّ اسم "مهند" كان غريباً غير مألوف في مصر حينها، إذ لم تكن نور ولا مهند قد أطلّا بعد على شاشات التلفزيونات العربيّة. ولد مهند لكن للأسف شاء حظّ عرفة العاثر ألّا يكن قرّة عين له كما هم أخوته وأخواته، لتستمر الحياة عابسةً في وجهه وهو من لم يبخل عليها قطّ بضحكته الرنّانة التي كانت حينما تجلجل تشبه ضحكة الممثل الراحل حسن فايق.
أثناء دراسة الدكتوراه كان انتظار الحوالة بفارغ الصبر نهاية كلّ شهر من العبادات الرتيبة التي كنت أمارسها، وكان تسديد الديون التي كنت أضطرّ إليها من الطقوس الثابتة التي لا تتغير، فما أن أستلم الحوالة حتى أبدأ بالإنفاق بلهفة المحروم ولوعة المشتاق، فأجرّب الرخاء بضع أيام قبل أن أعاود الكرّة مقترضاً منتظراً نهاية الشهر الجديد. بلهفة أكبر كان عرفة وأصدقائي من المدرسين في مصر ينتظرون عطلة الصيف بفارغ الصبر في التسعينيات، ليس ليستريحوا من عناء العمل وظروفه الصعبة، وإنّما ليحتفلوا بألف أو ألف وخمس مائة جنيه كانوا يأخذونها تحت مسمى "المكافأة" التي كانت وزارة التربية تصرفها للمعلمين بعد امتحانات الثانويّة العامة في فترة التسعينيات، كيف لا يحتفلون ومتوسّط رواتبهم كانت 300 جنيه في حينها! عرفة وغيره من أصدقاء عمري كلّما شعروا أنني في ضيق، كانوا يؤثرون الوقوف إلى جانب صديقهم على حاجتهم الماسّة وفرحتهم التي كانت لا تأتي إلّا مرةً كلّ عام.
عرفة في العطاء كان يعشق الصدارة بجدارة، لذلك سطّر مواقفاً ألجمت كلّ صوت وأخلدته رغم الموت، لتتحدّث عنه وتروي ما يحول حياء العفيف وشموخ الشريف أن يقوله عن نفسه، فأي عبارات يمكنها أن تصف موقفه وهو يبيع خاتم زواجه ليساعد صديق في أزمة تشتدّ وتضيق!
كان عرفة وسيظلّ واحداً من نماذج المحبّة في زمن سماسرة الكراهية وأباطرة الإقصاء والتنمّر، كان جميل الصوت والسمت، كان يرتّل القرآن ويغنّي في أحيان، كان يصلّي دون أن يمنّ بصلاته على أحد، يصاحب من يصلّون يوم الجمعة أو يوم الأحد، لم يجعل من تديّنه حاجزاً وجدار يحول بينه وبين من يخالفه العقيدة أو الأفكار.
عرفة، أو الشيخ كما كنّا نناديه دائما، رحل بعد أن حلّ وارتحل في حياة أذاقته من مرّها وبخلت عليه بحلوها، ومع ذلك ترك خلفه ما يُحلّيها في نظر المُثَقلين بأعبائها الحائرين من تقلّبها، لأنّهم عرفوا من خلاله أنّ فيها من يستحق أن نعيش برفقتهم ونتطلع إلى صحبتهم ونمنّي النفس بلقائهم ولو بعد حين.
الحبيب الذي سيبقى صوته وذكره حاضراً لا يغيب، عرفة كمال الدين: في أمان الله.