الأنباط -
في غمرة انشغال الجمهور الافتراضي بفناكيش شعبويّة من زمن الأبيض والأسود، فما بين فنكوش نائب يريد أن يكون غاضب إلى فنكوش وعضو لجنة غائب حردان يبحث عن قارب يعيده إلى حيث كان، بعد أن اكتشف والرحلة تقترب من نهايتها أنّه رِكبَ "سفينة الإصلاح" بالغلط؛ إتُّخِذَ قرار هو الأخطر من نوعه يعطي الضوء الأخضر بالتغوّل على محميّة ضانا تحت عنوان مخفف مغلّف: "تعديل حدود المحميّة"، وذلك لغايات التنقيب عن النحاس والتعدين.
بيان الجمعيّة الملكيّة لحماية الطبيعة يوم الاثنين الماضي الذي يستنكر القرار، يعدّ من وجهة نظري واحداً من المواقف الوطنيّة المشرّفة التي تستحقّ التقدير وتُسجَّل نقطةً مضيئةً في سجل الجمعيّة والعاملين والعاملات فيها. الجمعيّة في بيانها كانت حرفيّةً وذكيّةً إلى حدّ يجعل من بيانها نموذجاً للمدافعة وكسب التأييد، حيث أفرد مساحةً كبيرةً لتوعية الشارع -الذي ربما يجهل جانب منه- بالقيمة البيئيّة والسياحيّة لمحميّة ضانا وما تمثّله من مصدر للدخل القومي ورافعة للتنمية المحليّة، إذ أوضح البيان التنوّع التضاريسي والنباتي والحيواني في المحميّة الذي أهّلها لأن تكون إحدى المعالم السياحيّة البارزة على خارطة العالم، هذا فضلاً عن مساهمتها في تشغيل عدد من المواطنين والمواطنات وما يستتبعه ذلك من وجود أسر معالة تعتمد في دخلها على المحميّة.
المؤلم في البيان توصيفه لما جرى من الناحية السياسيّة والمؤسسيّة، حيث أوضح أن الجمعيّة علمت بقرار اقتطاع أجزاء من المحميّة من وسائل الإعلام، وبيّن رئيسها وزير البيئة السابق المهندس خالد الإيراني في لقاء إذاعي مع الإعلامي طارق حامد؛ أنّه تسلّم لاحقاً كتاباً يبلغه بمضمون القرار، مع أنّ الجمعيّة بحكم القانون صاحبة الولاية والمسؤولة عن إدارة المحميّة، الأمر الذي إذا صحّ يعيد التأكيد على ضرورة مكافحة آفة عدم التشاركيّة في اتخاذ القرارات في مؤسسات الدولة وأنفة التعامل مع المعنيين والمتأثّرين بها.
كما هي العادة مع كلّ أزمة، تتحوّل البوصلة عن أصل المشكلة وجوهرها إلى فرعها ومظهرها، وتحلّ حرب البيانات محل ضرورة تبادل المعلومات ونشر ومناقشة نتائج الدراسات، وعلى هدي من هذا النهج المعوج، أصدر مجلس محافظة الطفيلة بياناً يوم أمس الثلاثاء يعبّر فيه عن تأييده لقرار اجتزاء مساحات من المحميّة متعلّلاً بما ستعود عليه صناعة التعدين من فوائد على أبناء المحافظة وبناتها من حيث توفير فرص العمل وتنشيط القطاعات التجاريّة... وكأنّ المحميّة ملك خاص للمحافظة وليست ثروةً وطنيّةً تخص كلّ أردني وأردنيّة.
في الاتجاه نفسه، أبى نقيب الجيولوجيين إلا أن يكون حاضراً في المشهد، فأدلى بدلوه، فأشاد بالقرار واستفاض بما سيعود به التنقيب عن النحاس وتعدينه في المحميّة "من فوائد عظام... وما سيزيله من مظالم وأضرار جسام... عن إقليم الجنوب الذي طالما عانى من التهميش والإقصاء".
لا يمكن إنكار مظلوميّة محافظات معان والطفيلة والكرك والمفرق وجرش وعجلون وسائر المناطق التي تقع بعيداً عن العاصمة والمدن الرئيسيّة الكبرى؛ وحاجتها للإنصاف والدعم الشامل على مختلف الصعد، إذ تعيش هذه المحافظات حالةً من الحرمان المستصحب من الخدمات ذات الجودة العالية بل ومن الخدمات الأساسيّة في عدد من مناطقها، إلّا أنّ هذا القصور لا يعالج بالافتاءات والجور على الثروة الحرجيّة والمعالم السياحيّة التي تساهم أصلاً في تنمية محيطها، إذ أنّ وجود غابات ومحميّات وأحراج ينبغي أن يكون دائماً مصدر ثراء وإثراء وقاطرة لزيادة معدلات الإيرادات والدخل وتنمية المجتمع المحلّي.
المهندس خالد الإيراني في حديثه الإذاعي شكّك في المعلن عنه من "وجود ثروة معدنيّة في أرض ضانا ستعود بالمليارات على الدولة وإقليم الجنوب"، ووضع المسألة في نصابها بطلب مشروع وبديهي، وهو أن يتم نشر الدراسة التي قامت بها الشركة للوقوف على حقيقة الكميّة المقدّرة من النحاس وجدوى استخراجه وحجم العائدات الماليّة على خزينة الدولة من ذلك... مبيّناً أنّ الأمر لا يمكن تسطيحه بالقول أن المحميّة ستظل بخير، إذ أن عمليات المسح –كما أشار- قد ألحقت بها ضرراً جسيماً فما بالك حينما يبدأ التعدين بما يحمله من أضرار وأخطار على البيئة النباتيّة والحيوانيّة.
بالأمس القريب كانت برقش واليوم ضانا، في مشهد ينم عن تذيّل السياحة والثقافة ومن قبلهما الإبداع؛ قائمة الأولويات الوطنيّة في بلد ثروته في آثاره وطبيعته ومزاراته السياحيّة وفي عقول وكفاءة أبنائه وبناته، فالحريّ بنا السعي لاحتلال مراتب متقدّمة بين الدول التي تقيس حضارتها ورقيّها بمقدار احترامها واحتفائها بتراثها وطبيعتها وثقافتها وفنونها.
المناكفات وحرب البيانات والتراشق بالتصريحات لا يمكن أن يكون سبيلاً لحلّ الأزمات واتخاذ الصائب من القرارات والمحافظة على المقدّرات، فلا تتركوا ضانا تضيع ما بين حانا ومانا.