الأنباط -
د. مهند العزة
زيارة الملك إلى واشنطن بوصفه أول زعيم عربي يلج إلى البيت الأبيض ويلتقي الرئيس الأمريكيّ الجديد، وما سبق ذلك من مواقف داعمة للدولة خلال "قضية الفتنة"، ثم الإعلان مؤخّراً عن تقديم حزمة مساعدات إضافية من الولايات المتحدة للأردن، يجعل هذه الزيارة بمثابة إعلان رسمي عن الخروج من نفق مظلم دخلته العلاقة بين البلدين على إثر الرعونة السياسية لترامب الذي راهن على بعض الدول وارتهنت سياساته بأهواء قادتها الجامحة التي صوّرت لهم أنه بمقدورهم إسقاط الجغرافيا والتاريخ اللذان يربطان الأردن وفلسطين سياسياً واجتماعياً وثقافياً ووجدانيا إلى حدّ يغدو معه الحديث عن حلّ عادل وشامل للقضية الفلسطينية بمعزل عن الأردن ضرباً من العبث السياسي.
"أبو إفانكا" -كما يحبّ عشّاقه من العربان أن ينادوه- وصل به ازدراء بعض الزعماء حد التصريح بأنه يريد أموالهم عنوةً وإلا تخلّى عنهم ليسقطوا في غضون أيام، فظنّ في ما يبدو أن قادة الدول الفقيرة في المنطقة التي لا تمتلك "سوى" التحضّر والمعرفة والحنكة السياسية -التي حرمت منها دول غنية لم تكن قد تأسست بعد حينما ولد قادتها الحاليّين- سوف يكونون لقمةً سائغةً يلوكها ويبتلعها وهو يحتسي كأساً سِكّ من النفط العربي الخام.
ترامب الذي احترف واستعذب التعامل مع أصحاب السوابق الذين كانوا يتنافسون في عشقه وإرضائه كأنهم زوجات عقيد في مسلسل باب الحارة، وجد في الملك عبد الله الثاني طرازاً مختلفاً من القادة لم يألفه، حيث كان موقف الملك واضحاً بعدم المساومة على الثوابت الوطنيّة والإقليميّة تحت أي ظرف حتى لو كان الضغط على الأردن بالقتصاد ثم محاولة زعزعة أمنه الداخلي كما حدث في "قضية الفتنة" وما سبقها من تأجيج وتهييج للشارع ومحاولة لشقّ الصف... لينتهي المآل بصفقة القرن إلى صفعة صحّت وصحصحت بعض سكارى الأعراب الباحثين عن محل من الإعراب.
في المقابل، يرى البعض في الزيارة فرصةً لتحفيز عمليّة إصلاح سياسي داخلي تلامس جذور المشكلة ولا تكتفي بوصفة "البَنَدول" التي احترفتها بعض حكوماتنا كلّما أصيبت بصداع المطالبات بالتغيير، إذ يعتقد هؤلاء أن الرئيس بايدن سوف يعرب عن تطلّع أمريكيّ لحالة حقيقية من الإصلاح في الأردن، تأسيساً على المُعلَن من جانبه أثناء حملته الانتخابية التي وعد خلالها بدعم حقوق الإنسان والحريات والتحوّلات الديمقراطية، وما توعّد به الأنظمة القمعية الاستبدادية، مع أنّه ما لبث أن أعلن توبته واستغفر لذنبه ومضمَض فمه مّما قاله فور جلوسه واسترخائه على كرسي الرئاسة في المكتب البيضاوي.
توقيت تشكيل لجنة تحديث منظومة الحياة السياسية في الأردن اختير بعناية شديدة ليحقق أهداف عدّة، فمن جهة، جاء مواكباً لانعقاد جلسات المحاكمة في "قضية الفتنة" وحالة الفوضى التي حدثت على هامش قرار فصل النائب السابق أسامة العجارمة، ثم –وهذا الأهم- جاء قبيل اللقاء الذي جمع الملك ببايدن، بحيث تكون ملامح مخرجات عمل اللجنة قد تبلورت ويمكن إبرازها بوصفها جرعة إولى من عمليّة إصلاح واسعة لكنها تدريجية، وهذه حنكة سياسيّة لا غبار عليها، لكن ما ينبغي على الجميع تذكّره دائما، هو أن عمليّة الإصلاح استحقاق داخليّ قولاً واحدا.
تجمع عدد من الأردنيين الأمريكيين لاستقبال الملك وتحيّته بالقرب من البيت الأبيض، جاء تعبيراً تلقائيّاً عن تأييد النظام ودعمه في غمرة التحديات الصعبة التي مرّ بها الوطن مؤخّرا، لكنه أيضاً وربما بقدر أكبر، جاء تنديداً بحكواتيّة المقاهي من جوقة الخارج الذين فشلت دعواتهم لتجميع أنفسهم لتنفيذ وقفة احتجاجية بالتزامن مع الزيارة، فهؤلاء الحكواتيّة للأسف وجدوا وبسبب الأداء الإعلامي الهزلي والهزيل عندنا؛ قلّةً قليلةً في الداخل تصغي لحكاويهم غير المترابطة التي كثيراً ما يرتجلونها أثناء بثّهم الميّت على الفيسبوك ويوتيوب، وكان أكثر ما يؤلم، هو استئجارهم من قبل بعض أطراف "قضية الفتنة" للتأجيج والترويج وبثّ بعض المقاطع المسربة للأمير حمزة، مثل مقطع الحوار الذي دار بينه وبين قائد هيئة الأركان، حيث كان انتشاره من على صفحة أحدهم على فيسبوك. عموماً أفضل وسيلة للتعامل مع هؤلاء هي تركهم ينعقون، فما من جهة يمكنها أن تسفّه حديثهم وتبيّن خواءهم بالقدر والكيفية التي يفعلونها هم بأنفسهم كلّما فتحوا فمهم لا ليتكلّموا وإنما ليبتلعوا لعابهم ستراً لخواء وفاضهم إلى أن يتمكّنوا من تحريك لسانهم.
لعل أهم ما في زيارة واشنطن هو تذكير دول المنطقة بمحوريّة الدور الأردني ومركزيّته في الإقليم بعد أن كان قد تراجع بفعل البلطجة السياسيّة التي مارسها ترامب من خلال بعض فتوّاته، الأمر الذي أدركه العديدون في المنطقة بمجرد إعلان فوز بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكيّة، ويمكن قراءة ذلك بسهولة من خلال التصريحات الوديّة والزيارات التي شهدها الأردن في غضون الأشهر الماضية من أطراف راجعت حساباتها السياسية بعد رحيل "أبو إفانكة" عاشق الحسابات البنكية.
لقاء الملك ببايدن له من الدلالات الهامّة ما لا يمكن إنكاره، ومع ذلك، فإن سقف توقعات البعض من هذه الزيارة ربما تجاوز سقف البيت الأبيض الذي تتحكم المصالح الأمريكيّة فيه ارتفاعاً وانخفاضا.