الأنباط -
هذه رواية مجنَّحة تحلق بالقارئ عالياً في فضاءِ الفكر الانساني. الثنائيات الضدية فيها اشبه ما تكون بجُنيّحات الرفع الاضافي على سيف الهواء.
فصورة الثراء بادية في شخص الراوي الذي يمرُ بسيارة فارهه في شوارع دكا تقابلها صورة الفقر "في طرقات دكا المهجورة من الناس والمسكونة بالحيرة والقلق".
وثاني هذه الاضداد هو الابيض والاسود فيدور في ذهن الراوي لون زهر اللوز الناصع البياض حتى اذا ما وصل المسكن اطل عليه الغراب متشحاً بشديد السواد تطوّق عنقه قلادة رمادية تدل على ان الاشياء لا يمكن الحكم عليها بالمطلق فما بين الابيض والاسود هنالك ضلال كثيرة .
يدخل الراوي القبر بحثا عن الاسرار ويعيش تجربة الظلام الحالك ثم يخرج جريحاً الى ظهر الارض ليرى النور. وهنا البون شاسع ما بين الظلام والنور والداخل والخارج .
اما شخصية "بدر الخير" فتجتمع فيها كل النقائض فتارةً يكون مثالا للخير وتارةً اخرى مثالا للشر اذا يدعي إنقاذ الراوي عند حافة القبر ليعود في النهاية ليكشف انه هو من ضربه .الايذاء والاسعاف هما مثالان على الطباق في اللغة .ولا يدري القارئ ماذا كان يلبس بدر الخير عندما قام بفعلته ألباساً تقليدياً ام لباساً عصرياً ممثلاً ببنطال الجينز!. ان بدر الخير هو ذاته بدر الشر وهو المؤذي والمسعف في آن واحد ولكلٍ لباس مختلف .
يستمع الراوي مرةً لغناءِ ام كلثوم واخرى لفضل شاكر الاول مؤنث والثاني مذكر وتبعا لذلك تختلف نعومة الاصوات ودرجة الرقه. ثم ان اختيار الكلمات مختلف ايضا ما بين ذات الهدير اللغوي والايقاع الشعري هذا من جهه والكلمات البسيطه والعذبه التي لا تسبح في بحور الشعر العربي من جهة اخرى.
واخيراً تصعد الرواية بالراوي من مطار دكا لتهبط به في مطار القاهرة فيكون بذلك قد غادر الوحشة الى الإلفة والغموض الى الوضوح والغربان الناعقة الى عصافير جميلة تغرد منتشية بسحر النيل ومن حادثات كادت ان تطأ صدره بمنسمٍ ثقيل وتضرّسَ جسده بانياب قوية الى احداث لطيفة طيبة صنعها له اهل مصر عند الوصول "...الحمد لله على السلامة يا افندم، الله ما اجمل هذه الكلمات وما اجمل هذه اللهجة "
وبهذا تكون الثنائية الضديه قد ساهمت في البناء المحكم للرواية على صعيد الفاعلية الزمانية والفاعلية المكانية وفي ابراز صورة الشخوص الذين صنعوا الاحداث التي تحركت ببطء نحو القمة ثم انهارت سريعاً نحو النهاية.
على الهامش اود ان ارسل بتحية عطرة الى مؤلف الرواية الاديب الاردني سعيد الصالحي هذه التحية ارسلها على متن سفينة من الزهور تتهادى في بحر من العطر.
انتهى