الأنباط -
كان الأردن لاعبًا أساسيًا أو بالأحرى اللاعب الأساسي في القضية الفلسطينية على مستوى المنطقة لعوامل كثيرة ومتعددة ومركبة، أهمها التأثير المباشر على الأردن لأي تطور على القضية الفلسطينية سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، وذلك يرجع إلى أن الأردن الأقرب جغرافيًا وديموغرافيًا لفلسطين كلها، لذلك كان يحرص على أن تكون معظم أوراق القضية بيده، أو حاضرًا فيها على الأقل حرصًا على مصلحته الوطنية العليا، ثم حماية لحقوق الفلسطينيين على كل المستويات، وحتى عند صدور القرار الخطيئة عام 1974 الذي اعتبر أن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين والذي وافق الأردن عليه على مضض، ليس حبًا في السيطرة على الملف الفلسطيني بل لأنه كان يعرف مآلات هذا القرار، وهذا ما تعيشه القضية الآن، لكن الأردن استمر كلاعب أساسي وقوي على ساحة هذه القضية، وقدم لفلسطين وللفلسطينيين أكثر من أي طرف عربي أو إسلامي ودفع في سبيل ذلك الأثمان الغالية في الكثير من الأحيان، وكان يتعامل مع كافة أطياف الجهات الفلسطينية المنخرطة في القضية، وطالما كان يحل أي خلاف بين هذه الجهات في عمان حفاظًا على مصلحة الفلسطينيين.
اليوم، بعد أن وضعت الحرب الأخيرة على غزة أوزارها، نكتشف للأسف أن هناك أكثر من طرف عربي دخل على الخط الفلسطيني، وربما تجاوز الأردن في هذا الملف، ولأن هذه الأطراف جمعت بيدها الكثير من الأوراق الهامة للقضية الفلسطينية، في حين تنازل الأردن – غير مضطر- عن معظم أوراقه في هذا الملف نتيجة توازنات غير مهمة في كثير من الأحيان. خذ مصر مثلًا، فعند انهيار الحكم الإخواني فيها دار بين القاهرة وحماس ما صنع الحداد، وتبادل الطرفان الاتهامات الكثيرة والكبيرة، واعتبرت القاهرة حماس منظمة إرهابية، وعندما هدأت النفوس عادت القاهرة ولو على المستوى الأمني فقط لتمسك ورقة حماس من جديد، وتكون اللاعب الأساسي على الساحة الفلسطينية حيث أخذت زمام الأمر في موضوع غزة، وبالتالي القضية بأكملها. وكذلك قطر، التي فتحت ذراعيها لحماس لأكثر من عقدين، منذ أن طلب منها أن تغادر عمان، لتكون هي الأخرى لاعب أساسي في القضية الفلسطينية.
في السياسة لا يوجد حب أو كره ولا قطيعة أبدية، يوجد فقط مصالح وامتيازات وميزان دقيق للفوائد العائدة من خلال أي موقف سياسي تتخذه أي دولة. الحرب الأخيرة في فلسطين كشفت لنا وبشكل واضح تراجع دور الأردن على الساحة الفلسطينية، وهذا يعود إلى حصر عمان تعاملها مع الجانب الفلسطيني على السلطة الفلسطينية في رام الله. ربما يكون صحيحا أن الدولة لا يجب أن تتعامل إلا مع الجهة التي تمثل الدولة الأخرى في أي بلد، لكن الوضع الفلسطيني له ظروف خاصة وخصوصية مختلفة، إذ أن الممثلين للداخل الفلسطيني اليوم أكثر من جهة، حيث برزت حماس، بعد الحرب الأخيرة بالذات، منافسًا قويًا للسلطة الفلسطينية، ناهيك أن الانتخابات التي جرت قبل سنوات كانت نتائجها أن حماس حازت على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، كما أنها شكلت الحكومة الفلسطينية، وهذا يعني أن حماس تشكل جزءا كبيرًا من الشعب الفلسطيني. وعليه، كان لزاما على السياسيين في الأردن ألا يقطعوا علاقة الأردن بها تمامًا، وألا يكون الطلاق بائنًا بينونة كبرى، والمثل المصري في علاقة القاهرة مع حماس أكبر إثبات على هذا القول.
أما عن الوصاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، فإننا يجب ألا نخجل ولا نتردد عن القول بأن هذه الوصاية لا ترتب على الأردن أن يقف وحيدًا في مواجهة الصلف الإسرائيلي في مواجهة هذه المقدسات ومحاولة السيطرة عليها. كنت أتمنى أن يخرج وزير خارجيتنا – المسافر دوما – ويعلن أنه لا يجب أن يكون الأردن وحيدا في الدفاع عن هذه المقدسات، وأن الوصاية الهاشمية التي حاول الإسرائيلي مسها لا تعني أن العبء يجب أن يكون على كاهل الأردن وحده، فكل الأمة مسؤولة، وإن كانت خصوصية الأردن مختلفة عن الجميع نظرًا لارتباط الهاشميين التاريخي والديني مع القدس، اللهم إلا إذا كان يشعر الأردن بأن هناك من العرب أو المسلمين من يحاول الالتفاف على هذه الوصاية التاريخية من باب الحسد وحب السيطرة أو من باب تنازع الأدوار.
الملك له حضور ساطع وقوي على الساحة العربية والساحة الفلسطينية بالذات، وكذلك على الساحة الدولية، ولكن للأسف الطبقات السياسية ما دون الملك من حكومة ومستشارين لم يستطيعوا الارتقاء إلى مستوى الأداء الملكي والاستفادة من حضوره الدولي والعربي، خصوصا في الأزمة الأخيرة. الحكومة لا تقدم أي شيء على المستوى السياسي، وكأنها تقول أنا خلية إدارة ولا علاقة لي بالسياسة، أنا أدير شؤون كورونا وانقطاع الكهرباء وأزمة المياه وأسعار الخضار والفواكه والدجاج واللحوم. أما عن المستشارين فحدث ولا حرج، وكأن الأمر لا يعنيهم.
اليوم، نحن بحاجة إلى حكومة سياسية بامتياز، تكون عونًا للملك. لا يعني أن السياسي لا يفقه بالإدارة، فطوال العقود الماضية كانت حكوماتنا سياسية بامتياز، وكانت مبدعة على مستوى إدارة البلاد في نفس الوقت. رئيس الوزراء يجب أن يكون صاحب فكر سياسي قبل أن يكون خبيرًا بالإدارة. نحن ولله الحمد في الكثير من الأحيان لا هذه ولا تلك.
نعود إلى الملف الفلسطيني الذي يجب أن يعاد النظر بعلاقة الأردن به، وإعادة كيفية التعامل مع فسيفساء خارطة القوى السياسية الفلسطينية بكل توازن واستقلالية، لأن مصلحة الأردن على مستوى القضية الفلسطينية أهم من كل الاعتبارات السياسة وأخذ خواطر هذه الجهة أو تلك، حيث تبين أن هذا السلوك لا يسمن ولا يغني من دور يليق في الأردن، وأن أهمية الدولة في الأوراق التي تملكها في مختلف القضايا الإقليمية والدولية، خصوصا إذا كانت تطورات أي قضية تمس المصلحة الوطنية للدولة، حال علاقة الأردن بفلسطين، لان أي تطور تشهده القضية الفلسطينية يمس مصلحتنا الوطنية العليا كما قلنا نظرًا للتشابك الجغرافي والديموغرافي بين البلدين. إذا كان هذا الكلام الذي سبق غير دقيق، فليمثل وزير خارجيتنا أمام مجلس النواب ويقدم لهم تفصيلًا عن دور الأردن في حل الأزمة الأخيرة، ويستعرض دبلوماسيته التي قام بها في الأيام الماضية، ويؤكد لنا أن الدور الوطني والقومي لم يتراجع في القضية الفلسطينية، عندها نقدم له الشكر إذا قدم حقائق مقنعة أو على الأقل، يخرج وزير الدولة لشؤون الإعلام ببيان تفصيلي – أقصد بيان وليس خطبة مزينة بالسجع والاستعارة اللغوية- يشرح ما قامت به حكومته من اتصالات في الأزمة الأخيرة تصب في صالح الدور الأردني وأشك طبعا أنه يستطيع.
عمان بحاجة أن تعيد ترتيب أوراقها، ليس فقط فيما يخص القضية الفلسطينية، دون النظر إلى حساسية خواطر الأخرين، فالمصلحة الوطنية يجب أن تكون أولًا وأخيرًا وفوق أي اعتبار