الأنباط -
أتذكرُ نفسى طِفلة مُثيرة وذكية، بذِهنٍ حاضِرْ ونبيهة... فحينَ يُقابِلُنى إنساناً، يقِفُ لِفرطِ إعجابِه بِمْوهِبتى وصِفَاتى
قابلتُ آباءً تدمعُ أعُينِهُمْ عِندَ سَماعى شِعراً، إِلقاءاً وكِتابة... بأن يهِبُ المولى أطفالهِ نفسَ طِمُوحِى وذكائِى
وهبنى الرحمنُ بفضلهِ، ذاكرةً حادة تحفظُ بِمُجردْ سماعِ النصِ آلافَ الأشعارِ والقُرآنِ... عُوقِبتُ لكونى مُختلِفةْ، فأرادوا خنقَ أحلامى
بدأتْ مُعاناتى تكبرُ مُنذُ نِعُومةُ أظفارى... موهبتى كانت بِفضلُ الله هى أشعارى وقُرآنى
لم آخُذْ أبداً أشياءً ليست من حَقى أو مِلكاً لى... رُغمَ أنى كبُرتُ وأنا أخوضُ بِمُفردِى معركتى كى أُثبتُ ذاتى
لم أطلُبْ أبداً مُساعدةً لِجٌلَ فخرى وإِيمانى بِأنّ علمى وطريقى مُفتاحى... فوددتُ اليومَ أن أفتحُ قلبِى لِأُشرِككُم بعضاً مِنْ حِكاياتى
كان لدىّ أحلامٌ مُختلِفة ليست كَباقِى الأحلامِ... أُؤمنُ بأنى سأُحقِقُها، ومضيتُ أُحَارِبُ بذراعىّ لِأُحققُ دربى وأحلامى
هُنالِكَ شقٌ آخرَ فى ذاتى يعشقُ أُنثى مُختلِفة دُوناً عن كُلِ الطِفْلاتِ... فأظْلُ أطُوفَ البيتَ أسيرُ بِكعبٍ عالٍ أتسكعْ، وأنظُرُ تحتَ قدماىّ
أكبرُ آفةٍ لى، هى أنى كُنتُ أُطيلُ النظرَ كثيراً لِمِرآتى... أتصفحُ وجْهِى العابِثُ حيناً وأنا أتزينُ بِعُقدٍ أو أضعُ بِعبثٍ مِكْياجِى
أتذكرُ أولَ معركةٍ لى مع جنسٍ آخر، حين كُنتُ أخلعُ شرائِطَ شعرى البيضاء... فلاحظتُ إبنَ جيرانى وهو يترقبُ، يتلصصُ من خلفِ البابِ خُصلاتى
فصرختُ تظاهرتُ بِغضَبى ونِفُورى وهِياجِى... وأنا أتوقُ لِأمرٍ آخرْ لم أفهمه ظل يدورُ فى أعماقِى
كُنتُ أتسرعُ تِلكَ الأُنثى المدفُونةَ كى أُطلقُها وأُبهِرُها... كُنتُ أتوعدُ ذاكَ العِطرِ بأنى أُجيدُ إستخدامهِ على كُلِ فتحاتِ فُستانى
كُنتُ أُظنُ لِدهشتُكُمْ بِأنّ القُبلَة على خدى ستأتى لى بأطفالٍ... كنتُ أُدندنُ بِقباحةِ صوتٍ مُعتادة وأنا أضعُ ألحاناً لِكُلِ كِتاباتى
ولا أسكُتْ إلا بسماعِ قِصةِ أُمِنا الغُولة المسحُورةْ... فُأفكرُ كى أهزمُها وأقضى على خوفى مِنها، فينشغلُ ولا يهدأُ بالى
كنتُ أنهمِكُ فى إعدادِ مَلابِس عيدى، كُلُ ما فيها يُشبِه لونه مِنْ زينةِ شعرٍ لِحِذاءٍ... مع شالٍ يُخْفى تضاريسى، ويُدارى بعضاً مِنْ روعَاتِى وصَدَمَاتِى
كُلُ صباحٍ أُطيلُ النظر بمرآتى أُخبأُها بين أطرافِ وريقاتِ كتابى... أُخطأ دوماً فأُعطيها لمُعلمُتى فتُعيدُها لى فى سرية بين كشكُولِ أوراقى
كبُرتُ قليلاً ونفسُ حنينٍ يُراوِدُنِى بِنفسِ حِذائى العالى... كنتُ أتعثرُ وأنا أتشبثُ بِخُطواتى، فأميلُ رُويداً وأنا أتوكأُ على جُدرانِ حِيطانى
كُنتُ مُنهمِكة فى قراءةِ أشعارى وأنا مُتكِأة على البابِ بِمقاسِ حِذاءٍ أكبر... فأشقُ سُكونَ الليلِ عِندَ سِقُوطِى بِه صَرَخَاتِى
أعشقُ فُستانِى الأحمرْ كى أبدو مُتوهِجةً بِه... وأُضيفُ إِليهِ أحمرَ شفاهٍ، فأُرضِى غُرورَ أُنُوثتى وأهزمُ كِبريائى
كنتُ أخافُ صوت الرعدِ والبرقِ ومازلتُ أخشى سُقُوطِ الأمطارِ... فأتغطأ بِبضعِ بطاطينٍ فى نومى وأمسكُ منديلاً أيضاً حتى أشعرُ بِأمَانى
أرفعُ صوتى فأتدربُ وحدى على إلقاءِ أشعارى... فأُطيلُ النظرَ فى المرآة وأنا أبكى أو أُعِيدُ النظرَ فى بعضِ أبياتِى
كدتُ أُصابُ بإغماءة لو لمس أحدٌ فُستانى وسريرِى وحِذائى... أتذكرُ يومَ تصنعتُ النومَ حتى لا أنسى دندنةَ أشعارى
مازالتْ نفسُ الرعشةِ تُرجِفُنى وتطوفُ بِخلجاتِ وِجدانى... خوفاً من طرقةِ بابٍ أو فَتحةِ شباكٍ فيقعُ قلبى لِخشيتُهَا مُرتَعدَاً بين ضُلوعى
كم كُنتُ أهوى شلالاً وغديراً لِضياعِى.... وأنا أتنفسُ غضباً لو مرتْ لمسةُ يدٍ تُوقِظُنى بِأكتافى
كبُرتُ بِخوفٍ غيرُ مُبررْ من كُلِ الأشياءِ... أخافُ الرجلُ وأصرخُ من كلمةِ حُبٍ تكادُ تُذوبُنى فأهرعُ نحو وِساداتِى
والأعجبْ أنى أُغلقُ ضوء الغُرفة ورائى وأُشعِلُ معها مدفأتى... وأقرأُ بِكُلِ رُومانسية على ضوءٍ خافِتْ فيطمئنُ وِجْدانى
كنتُ غريبةُ أطوارى... فأكتُبُ رسائِلَ أُرسلُها لأشخاصٍ لا أعرِفُهُمْ أبُثُ لهُمْ فيها هُمومى وأشجانى
كُنتُ أحتفظُ على الورقِ بِأصدقاءٍ من كُلِ مكانٍ... كبُرتْ معى فِعلياً هواياتى للحينِ وطِقُوسى
لَمْ أكُنْ أعرفُ أياً مِنْ صَداقَاتِى... ورُغماً عنى، ومع كُلِ رِسَالَة أقرأُها يتبدلُ يومى وأحوالى
كُنتُ أُجيدُ تَجميعَ التُحفِ والعُملاتِ... فأضعها على أرفُفِ دُولابى وأدراجى وأُغلقُ عليها البابَ بِأقفالى
أرتعدَ خيالى وإتسعَ لِأنْى أكتُبُ على ورقى فأطُوفُ العالمَ بِخَيالِى... فيُخيلْ لى أَنى أَجْمعُ حقِيبَاتِى، وأُسافرُ وحدى مع أمتعتى وسُفنى وأشيائى
كانت أسعدُ أوقاتاً لى، حين يدقُ ساعى البريدُ بابى... كانَ يُنادى بأعلى صوتٍ له كى آتى وأتسلمُ مِنه خِطابَاتِى
نَبْهتُ على سَاعِى بَرِيدِى ومُديرُ المكْتبِ بِصرامةِ طِفلة جَبْارَة... بِأن خِطاباتِى هِى كُلُ حياتى، وبِألا يَطّلِعُ أَحداً على كِتَابَاتِ بَرِيدِى وأَسْرَارِى
كَانت كُلُ زَمِيلاتى يَجْلِسنْ حولى وأنا طِفلة، أقرأُ لهُنْ بعضاً من رِسالاتى المَجهوُلاتِ... فأسألُ ذاتى: لِماذا أُحبُ على الورقِ ولا أُجيدُ فنّ العِشقِ كَمثِيلاتِى؟
أشعُرُ صِدقاً بأنى أكادُ سأفقدُ شخصاً لو ظهر لى بعد طُولِ مُرَاسَلاتِ وكتاباتٍ... فيتوهُ خطابهِ فى جَدولِ مواعِيدى وأَشْغَالِى
كُنْتُ أُدَارِى قارُورةَ عِطرٍ خاليةً... أُخبئُها لا أَعْلَمُ سبباً لِمّا أفعْلُ بَيَنَ أَدْرَاجِى وأَشْيِائِى
فَكِدتُ أَموتُ مُنْفعِلَة، لِأنّ طِفلٌ أَحمقُ مِن عَائِلتىّ حَرّكَ زُجَاجَةَ عِطْرى... وأَخرجَها مِن مْرقَدِهَا، فَأَبْكَانِى لِذَلِكَ وأَغْشَانِى
وحِينَ كَبُرتُ، كانَ صَوتاً يعلو ويتوعدُ تِلْكَ الطِفلةْ التى حُبِستْ يوماً فى أعماقى... يُخَاطِبُهَا: قُومى وأِرتَدِى كَعْبُكِ العَالِى
ورُغمّ بِأنِى كنتُ طِفلةَ موهُوبةْ مُختلفة... ظّلّ الخوفُ حين كبُرتُ يُطاردُنى ويُلاحقُ كُلُ حَياتِى
وأجِدُ مُبرِراً لقلقى اليومَ وخوفى مِن الدُنيا... لِعدمْ فِهمِهَا لى، ما بين إعراضِها عنِّى حتى الآنَ وإِقْبَالِى