الأنباط -
للواء المتقاعد محمد بني فارس
الذكرى الخامسة لاستشهاد الرائد الطيار المقاتل معاذ بني فارس
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} صدق الله العظيم
معاذُ...
خمسُ سنوات ثقيلات يا ولدي مَررنَ عليَّ كما تمرُّ الرَّحى فوقَ حَبِّ السنابل.
خمسٌ عجافٌ يا معاذ مُذ كبا بك جوادك لم أَذُقْ بها إلا حنظل الفراق، خمسٌ كئيباتٌ لم تُرَ في عيوني إلا دموع الحسرات، خمسٌ لم أسمع بها إلا صدى طائرتك وهي تهوي من عليائها لتصعد أنت شهيدا من كبرياء.
أعود بالزمن إلى الوراء وأتذكر صبيحة ذلك الخميس القاتم في الحادي والثلاثين من آذار عام ٢٠١٦، كان كلُّ شيء يَشي بأنه يومٌ لا كالأيام، يومٌ كان فيه الموت، وعلى الملأ، يُعِدُّ المشهدَ لاقتناصك، وأنتَ الذي أفلتَّ منه مراتٍ ومرات.
أخبرني زملاؤك عن آخر ابتسامة ملائكية رسمتها على محياك وأنت تصعد مركبة الحديد والموت برفقةَ زميلك النقيب الطيار أشرف طيفور،
لم تكن تدري وأنت تعطيه تلك الحصة التدريبية أنكما الآن في كبد السماء مشروعا شهادة ينتظران أن يُتم الموت المهمة بغتةً وبغير ضجيج.
معاذُ يا قرة العين ودمعتها، ربما أنت تعرف الآن كم تمنيت الشفاء لأشرف، وكم دعوتُ أن يَهبهُ الله حياةً جديدة كُرمى لوالديه وأحبته، وكم مَنَّيتُ نفسي على مدار شهر كاملٍ أن يفيقَ من غيبوبته ويروي لي آخر ما دار بينكما، لكن القضاء والقدر شاء لمن أحبَّكَ في الدنيا أن لا يبقى فيها وأن يلحق بك سريعا إلى عليين.
معاذُ، أيها المصطفى شهيدا بإذن الله، تلك هي الشهادة التي تمنيتَهَا، أُكرمتَ بها لأنك رضي الوالدين، طيبُ القلب وحُلوُ المعشر، أحببتَ ربّك فأحبَّكَ، واختارك لجواره مع الأنبياء والصديقين والشهداء:
أراكَ على الأرائكِ في نعيمٍ
فنعمَ المهر يا نعم الصَداقِ
معاذُ، يا فلذة الكبد وماء الحياة، خمسٌ مريراتٌ وذكراك لم تغب عن البال مرة، قرابةُ الثلاثة ملايين دقيقةكنت حاضرا فيها، في الصحو وفي النوم، في الحزن وفي المسرة، ترفرف روحك حولنا وتنثر العطر والضحكات فتمتلئُ دنيانا محبة وعزاءً،
خمسٌ مريرات وما زلتُ أكتمُ الألم الذي أثقل كاهلي، وأُعزي خاطري بأنني ربما سأكون واحدا من سبعينَ قريبًا وعدكَ الله أن تكون شفيعهم يومَ العرض عليه.
متى يكون لقائي بك يا معاذ؟، هذه الآجال علمها عند الله، وليس للمخلوق من علمها شيء، غير أنني أسأل الله كل يوم أن يقرب موعدَ اجتماعي بكَ، لأفعل مثل الذي كنت أفعله في الدنيا، أعانقكَ، وأشمُّ رائحتك، وأضمك إلى صدري وأبكي بكاء الفرح بلقيا الحبيب بعد أن جفت المدامع حزنا على فراقه.
تَعبتُ من طول الانتظار ومرارة التذكار يا ولدي، كنتُ أحسبُ نفسي قويا صامدا كالطود، لا تهزني الأعاصير ولا يغرقني الطوفان، لكنَّ فقدكَ أماطَ اللثام عن حقيقة ضعفي التي كنتُ أجهلُهَا:
فلا التّذكار يرحمني فأنسى
ولا الأشواقُ تتركني لنومي
فراقُ أحبّتي كم هزّ وجدي
وحتى لقائهم سأظلُ أبكي .
سبحان من قهرَ عبادَهُ بالموت وجعله حقًا عليهم:
فلا بد من موتٍ وفوتٍ وفرقةٍ
ووجدٍ بماءِ العينِ يوقَدُ جَمرُهُ
وما يتسلى من يموتَ حبيبُهُ
بشيءٍ ولا يخلو من الهّمِ فكرُهُ
ولكنه جُرحٌ يعزُ اندماله
وكسرُ جناحٍ لا يُؤملُ جبرُهُ
معاذ يا طريَّ العمر وصلب العود، اثنان وثلاثون ربيعا واريتُها بيدي تحت التراب ... يا أخضرَ العينين والقلب لم يَدُرْ بخلدي يوما أن أقف في بيت عزائك وأنا في السادسة والستين، وإنما كنت أدعو رب الناس أن يكون يومي قبل يومك، ولو أن نفسا تُفتَدى بنفسٍ لكنتُ أنا من يفتديك يا حبة العين.
فغايةُ النفسِ في سِفْرِ المدامعِ أن
يُبكىَ عَلَيَّ ولا أبكي على ولَدي
معاذُ يا سادنَ الشرف العسكريِّ، أهلكُ فخورون بوسام الشرف الذي حملناه على صدورنا باستشهادك، فخورون بما قدمنا للوطن بلا ترددٍ ولا منة، فخورون بأجمل الألقاب التي أورثتنا إياها: أبو الشهيد"، "أم الشهيد"، "زوجةُ الشهيد"، "ابن الشهيد"، "بنت الشهيد"، "أخ الشهيد"، و"أخت الشهيد".
أيها الفتى الأردني النبيل: سلامٌ على قطرات الدماء الزكية التي أنبتت زنبقا وريحانا في رمال الصحراء الأردنية الطهور، وسلام على كل غيمةٍ تسقي رفاتك في مسقط رأسك في بلدتك الأشرفية:
مَضى طاهِرَ الأَثوابِ لَم تَبقَ رَوضَةٌ
غَداةَ ثَوى إِلّا اِشتَهَت أَنَّها قَبرُ
"عَلَيهِ" سَلامُ اللَهِ وَقفاً فَإِنَّني
رَأَيتُ الكَريمَ الحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ
طِبْ مرقدا يا شطر نفسي، فهاشمُ ورنيم وريانة وريتال في بؤبؤ العين ما دام لي صدرٌ يعبُّ هواء هذه الدنيا، رحمك الله، ورحم رفيق رحلتك الأخيرة الطيار الشهيد أشرف، وأسكنكما الفردوس الأعلى من الجنة:
وداعاً حــــــبيبي لا لقاء إلى الحشر
وإن كان في قلبي عليك لظى الجمرِ
صـــــبرتُ لأني لم أجد لي مخلصًا
إليك وما من حيلة لي سوى الصبر
والدك : اللواء المتقاعد محمد بني فارس