د. خلف الطاهات
حادثة توقيف الزميل جمال حداد والمشهود له بالمهنية العالية وحرصه الدفاع الشديد عن حق المواطن في المعلومة وتقديم الصالح العام على خلفية مادة منشورة تتعلق بشان عام، اعاد فتح واقع الحريات الاعلامية في الاردن، في توقيت دفع الصحفيين والاعلاميين الى توحيد الصف دفاعا عن حرية الكلمة بعد مرحلة صعبة من الآهات والهنات جعلت هذا الجسم الصحفي هزيلاضعيفا شاحبا غير مؤثرا!
فالصحافة المسؤولة هي متلازمة الديمقراطية و كلاهما تعتبر الحريات رافعه اساسية لنهوض الدول وتقدمها. ولكن نتسائل هل الحرية الصحفية يجب ان تمارس على اطلاقها ام بضوابط؟ فلا يمكن ان نقيم الحرية كمفهوم دون ان نختبر ممارسات الصحفيين على ارض الواقع لملامسة حجم تطابق المفهوم مع التطبيق؟
كثير من الاعلاميين والصحفيين عند كل خطب او قضية يتسابقون لترديد مقولة جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين الشهيرة بان "الصحافة سقفها السماء"، وهي عبارة قيلت في سياقات مجازية وتعبيرا واضحا قاطعا عن حجم وقوة الارادة السياسية في اطلاق نهج الاصلاح والتمكين الديمقراطي، وهي رسالة في حينها وجهت للداخل والخارج تعبيرا واضحا عن طبيعة الحكم الجديد انذاك بانه عنوان الانفتاح وطريق الاصلاح.
هذه الرمزية في دعم الحريات الاعلامية في الاردن جاءت لاظهار جدية صانع القرار في تهيئة ارضية اعلامية مناسبة،لتكون رافعة حقيقية للعمل الديمقراطي والنهوض بالمجتمع، وتوجيهه نحو اهداف الدولة الاردنية الراسخة في احترام حق المواطن في التعبير، والانخراط في صنع القرار والمشاركة السياسية الفاعلة، والدفاع عن ثوابت الدولة الاردنية وملفات الاردن في المنطقة وخاصة فلسطين وعروبة القدس وحماية المقدسات.
البعض ممن اختلط عليه الفهم الحقيقي لهذه المقوله "سقفها السماء" سار في درب المثالية المفرطة وتجاهل الواقعية في الممارسة والتطبيق للعمل الصحفي. فالقول ان حرية سقفها السماء بالتاكيد هي اشارة لعلو السماء وابتعادها مسافةً عن الارض، وهي دلالة ان هذا الفضاء الوسيع بين الارض والسماء كفيل بان يتسع لكلمات واصوات الاردنيين، مواطنين واعلاميين، طالما ان سقفها هو سماء الوطن وثوابته الراسخة..والحديث عن مقولة جلالة الملك في دعم الصحافة وحرية التعبير انما حدد هذا الدعم بسقف واضح، وهو سقف غير مفتوح على اطلاقه..هذه الرمزية في دعم الصحافة والحريات وسقفها الموصوف بالسما دلالة على هامشها الواسع وفضائها الرحب يمكن ان نراها ايضا في مقاربات اخرى مشابهة نرددها دوما ان فلان كريم واجودي مثل السحاب او البحر.
نعم الارادة السياسية موجودة وملموسة بدعم الحريات، ويبقى السؤال كيف لنا كإعلاميين وصحفيين ان نترجم هذه الارادة وان ننعم بهذه الحريات؟؟ الجواب يكمن في الممارسة والتطبيق الفعلي للصحفيين فيما ينتجونه من محتوى اعلامي؟؟ و بكل تأكيد لا يمكن لاي صحفي محترف ومهني ملتزم باخلاقيات المهنة يقبل بان يتم تبرير بعض الممارسات الصحفية الخاطئة والدخيلة لا بل المعيبة في بعض الحالات تحت مظلة هذا السقف الرمزي او تحت عباءة المقولة الملكية وتحت مفهوم "الحرية".
لايوجد هناك ما يسمى حرية مطلقة لانها مفسدة مطلقة..والحقيقة ان الحرية هي مسالة نسبية ولها نوعان: حرية منضبطة وحرية منفلته!! والحرية المنضبطة هي تلك التي تمارسها وسائل الاعلام التقليدية وتقوم على معايير المهنية والتزام بالمسؤولية الاجتماعية من خلال الحيادية والدقة والموضوعية والتعددية والانصاف..اما الحرية المنفلته فسهل جدا ان نرى ملامحها ونحن نتابع ما تعّج به منصات التواصل الاجتماعي من تداول معلومات تغرق بالاشاعات وخطاب الكراهية والتنمر وكل امراض المجتمع لانها تنقل من اشخاص غير محترفي العمل الاعلامي ويعتقدون في بعض الاحيان ان الشتم والردح والسب واغتيال الشخصية والاعتداء على سمعة وكرامات الافراد هي المعني الحقيقي للحرية مع الاسف الشديد!! هذا التناقض بين المنضبطة والمنفلته كرس خطابا اعلاميا تائها، وخلق فوضى معلوماتية، وتعدد في مصادر المعلومات، وهو ما انعكس سلبا على تشكيل راي عام مختل وغير متماسك لان من يقوم عليه في ظل سطوة السوشيال ميديا اشخاص غير مؤهلين ويعانون من اختلالات عميقة في فهم رسالة ودور الصحافة والمعنى الحقيقي لمفهوم الحرية المسؤولة والمنضبطة!!!
وتاريخيا هناك دولا أفرط صحفيوها في ممارسات خاطئة واستغلال شنيع لمفهوم الحرية المنفلته او المطلقة، حينما سمحت تحت عباءة منفلته بانتاج مواد اعلامية وتقارير صحفية وتلفزيوينة فيها تحريض مباشر على مكونات المجتمع وتشجيع لنشر مواد صحفية تركز على الفضائح الجنسية والجريمة ومحاربة الاديان والطوائف والاقليات، فكان الثمن تدمير المجتمعات والتلاعب بنسيجها الاجتماعي وتهديد وحدته الاجتماعية، واصبح بعض الافراد ضحايا ما انتجه هذا المحتوى الذي عكس امراض المجتمع وارتفع منسوب الاجرام لدى البعض تحت تاثير المحتوى الاعلامي الموجه، وكان الثمن في المجتمع الامريكي اغتيالات لقادة سياسين بارزيين في الستينييات.
والمفارقة حينما نتتبع الحريات الاعلامية وتطبيقاتها في الميدان،فكيف لنا ونحن نتابع بعض المواد الاعلامية لبعض الاعلاميين في الاردن يكتبون بمواضيع حساسة وبسقوف مرتفعه جدا دون تضييق عليهم مقابل ما نراه من ذات الاعلاميين حينما ينتقلون للعمل في دول اخرى غير الاردن والتي لها ذات الظروف والسياقات العامه للاردن كدولة عربية مسلمة تقع في الشرق الاوسط؟؟ اذا ما الذي تغّير على هذا الاعلامي غير انه ذاته انتقل من بيئة عمل صحفي تتيح له هامش حريات اوسع نسبيا من تلك التي يعمل فيها في دول مجاورة!!!
باختصار الحريات الاعلامية المطلقة لاتوجد الا في الكتب والمراجع وفلاسفة السياسة ومنظريها، وهذه الحريات المطلقة تخلت عنها اعتى الديمقراطيات في العالم حينما رأوها تقوض الامن المجتمعي بعد عقود طويلة من الممارسة والتطبيق، ولجوء الى مفهموم المسؤولية الاجتماعية للصحافة في المجتمعات. واصبح ينظر للحرية وسقوفها انهاحالة نسبية تعكس ارتفاعها او انخفاضها حضورها وغيابها طبيعة السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية لبيئة عمل الصحفي. ومن هنا نتسائل: لماذا يطالب البعض الاردن ان يتصرف في موضوع الحريات الاعلامية كما لو كانت النرويج او السويد او الدنمارك؟؟ إن كان الهدف مجاراة الافضل وصولا لهوامش اوسع فهذا امر يجب السعي اليهكلنا و جميعا و بكل قوة وبلا تردد، اما اذا كان البعض يطالب الاردن بان تسلك سلوك دولة عظمى ذات تاريخ عريق في ممارسة الحرية والديمقراطية، فهذا طرح شعاراتي مثالي استعراضي يقفز عن الواقع ويتجاوز حدود الزمان والمكان!!
الواقعية مطلوبة عند تقييم الحريات، وللاسف يلاحظ ان كثيرا منا عند ذكر مفاهيم الديمقراطية والصحافة والحريات ولما لها من دلالات براقة وجذابة، يهيم في خيال المفردات ويسبح في عالم الفلسفة والدلالات وما يجب ان يكون وما لا تكون عليه هذه المفردات في عالمنا!! والثابت هنا ان لا معنى لديمقراطية بدون حرية، والحرية الحقيقية هي التي تعكسها الصحافة بمسؤولية عالية خدمة للصالح العام. والسؤال الاهم، هل المنظمات العالمية مثل مراسلين بلا حدود او فريدم هاوس Freedom House تصنف الاردن دولة ديمقراطية؟ وهل التزامات دولة مصنفة انها "ديمقراطية" في موضوع الحريات هي ذات الالتزامات لدولة مصنفة انها غير ديمقراطية او في مرحلة انتقالية للديمقراطية؟ ومع ذلك، لا يعتبر الاردن رغم بعض الانتهاكات هنا او هناك دولة مصنفة انها عدو للصحافة، والاردن ليست بيئة تقمع الحريات الاعلامية كما نقرأها في التقارير الدولية! والمعنى، ان الدافع الحقيقي لاحترام الاردن للحريات الصحفية انما الارادة السياسية للقيادة الهاشمية التي قطعت على عاتقها ان تقود الاصلاح المبنى على الشفافية والمشاركة والانفتاح.
بالمحلصة، هوامش الحرية التي ننعم بها بصورة عامة"مقبولة جدا" لدولة بظروف الاردن والسياق العام المحيط في المنطقة ولكن الطموح اكبر، ولنبقى ننعم بهذه "الحريات" فان مسؤوليتنا كاعلاميين وصحفيين ان نحمي حرياتنا من خلال الارتقاء بالعمل الصحفي والالتزام بمعايير المهنية وسقف الثوابت الوطنية واحترام عقول المتابعين وحقهم في المعرفة،وغربلة السوط الصحفي من الدخلاء الذين ارتكبوا مجازر مهينة بحق المهنة، والابتعاد جديا عن مجاراة غير المهنيين من الدخلاء والنشطاء الذين يقدمون محتوى سخيف هدفه الاستعراض والاستهبال والشعبويات، فلا يعقل ان صحفي خبرته اكثر من عشرين عاما او كاتبا يقود راي عام من منبر مؤسستة الاعلامية يهبط عبر منصاتهم الافتراضية الى مستويات لا تليق في منافسة دخلاء وناشطين هدفه جمع اللايكات وتعزيز نسبة الربح من لايفات اليوتيوب ببيع جمهوره!!! نعم انها الحرية لكنها منضبطة لا منفلته التي يجب كلنا ان نسعى لحمايتها عبر ممارسات "مسؤولة"!!