الأنباط -
د. عبدالله الطوالبة
لتكن البداية رغيف الخبز، بكل ما يعنيه وإليه يرمز. يحتاج الأردن صباح كل يوم، إلى ألفي طن قمح على الأقل، لإطعام عشرة ملايين إنسان يعيشون فيه. لكن معدل إنتاجنا من القمح، بالكاد يصل إلى عشرين الف طن سنوياً، أي أن الأردن ينتج 3% من احتياجاته فقط. لذا، يتم اللجوء إلى استيراد مليون طن قمح سنوياً، لتأمين المخزون الاستراتيجي.
الأردن، الذي يستورد رغيف خبزه اليوم، حقق اكتفاءً ذاتياً في إنتاج القمح وتصدير الفائض عن حاجته، في ستينيات القرن المنصرم. في العام 1964، أوقفت الحكومة استيراد القمح بسبب كفاءة الإنتاج المحلي. فقد بلغ الإنتاج المحلي من القمح حينها 286 ألف طن، تم تخصيص 159 ألفاً منها للإستهلاك المحلي والباقي للبذار والتصدير إلى مصر والسعودية.
لكن مساحات زراعة القمح بدأت تنحسر، ثم تتالى انكماشها من مليوني دونم في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي إلى أقل من 300 ألف دونم عام 2016. وعن الأسباب، عادة ما يُقال انها تتعلق بالزحف العمراني، وتفتت ملكية الأرض بانتقالها إلى الورثة، إضافة إلى تذبذب الموسم المطري. ولكن ماذا عن الدول المكتفية ذاتياً في إنتاج القمح وتصديره؟! ألا تشهد مثلنا تزايداً في سكانها يفرض توسعاً عمرانياً؟! فكيف حافظت على مساحات زراعة القمح فيها بل وزادتها، علماً بأن مساحاتها الكُليَّة هي هي لم تتغير؟!
إذن، الأمر يتعلق بالسياسات. يفتقر الأردن لخطط بناء اقتصاد انتاجي، من شأنها إزالة تشوهات هيكلية الاقتصاد الوطني. ولا يتوفر الأردن على قانون تحديد استعمالات الأراضي الزراعية. وفي السياق، يفرض نفسه التساؤل: كيف ولماذا بدأ الأردن باستيراد قمح رخيص الثمن من أميركا، جعل الإنتاج المحلي غير ذي جدوى؟!
من رغيف الخبز، ننتقل إلى التعليم. اعتقد أن اكثرنا ما تزال ذاكرته تحتفظ بصرخة وزير تربية وتعليم أسبق رفع عقيرته بها مدوية: 22% من الطلبة في الصفوف الثلاثة الأولى لا يجيدون القراءة والكتابة. هذا يعني أن حوالي 100 الف طالبة وطالب، ليس بمستطاعهم قراءة حروف اللغة العربية.
يحدث هذا في بلد حقق نهضة تعليمية خلال الأعوام 1950-1990، أثمرت كفاءات متعلمة أثبتت جدارتها وفرضت تقديرها في الداخل وفي دول الإقليم.
بدأ تراجع التعليم في بلادنا يُلاحظ منذ عام 1989، بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية التي كان من أفظع نتائجها فقدان الدينار نصف قيمته وأكثر. ومن آيات هذا التراجع، موقع الأردن في مؤشرات التعليم على سُلَّم التصنيف العربي والدولي، ومراتبه في الاختبارات والتصنيفات الدولية في مواد الرياضيات والعلوم، ناهيك بضعف طلبتنا في لغتهم الأم.
بخصوص الأسباب، فهي متكثرة وقد سئِمت التكرار. أما التداعيات، فيمكن تلخيصها في تحديين لا يحتملان الإنتظار، أولهما، تراجع تصنيف الأردن عالمياً في جودة التعليم، وبمقدور أي مهتم التأكد من ذلك بواسطة محرك البحث جوجل. أما الثاني، فيتعلق بعدم مواكبة مخرجات التعليم الجامعي لاحتياجات سوق العمل مما أدى إلى تزايد نِسَب البطالة.
ومن التعليم، نذهب إلى ما يُنْظر إليه بمعايير الحاضر على أنه أهم عناوين الإصلاح السياسي، ونعني الحياة النيابية. نستعرض صفحات الماضي، فنقرأ فيها ما يثبت ان المجالس التشريعية في مرحلة الإمارة وفي ظل وجود الانتداب، وكذلك المجالس النيابية في العقود الأولى بعد اعلان الاستقلال، أفضل أداءً في مراقبة الحكومات ومحاسبتها والقيام بواجبات السلطة التشريعية من مثيلاتها اليوم. ومن الأدلة الفاقعة، حجب الثقة عن حكومة سمير الرفاعي عام 1963 واسقاطها للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ الأردن السياسي. ولقد انتهت الكثير من المجالس في تلك الآونة بالحل، لمواقفها الوطنية الصلبة في الكثير من القضايا.
بعد هَبَّة نيسان 1989 ضد رفع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية، استؤنفت الحياة النيابية. وأفرز الأردنيون، في انتخابات نزيهة، مجلساً نيابياً استبشروا خيراً بأدائه، لكن فرحتهم لم تطُل، وكأنه ممنوع على الأردنيين أن يستبشروا خيراً وأن يفرحوا. فقد بدأ تراجع الحياة النيابية في الأردن منذ عام 1993، بقانون الصوت الواحد المشوه وظهور دور المال السياسي في الإنتخابات وشراء الذمم.
ويُلاحظ في العقدين الأخيرين، أن المجلس النيابي ما أن يُنتخب حتى تثور حوله عواصف التشكيك، وتبدأ تلاحقه تُهم التزوير. واللافت أكثر، أن هذه التُهم لا يستغرقها المُكْثُ في ساحة الإنتظار طويلاً حتى تتحول إلى اعتراف بحدوث التزوير، على ألسنة مسؤولين معنيين سابقين او على رأس عملهم. والنتيجة، فقدان المواطن الثقة بالعملية الانتخابية ومخرجاتها، وترجمة ذلك بالعزوف عن المشاركة فيها. وقد شهد العالم أخيراً، انخفاض نسبة التصويت في انتخابات مجلس النواب التاسع عشر إلى 29,9% كما أُعلن رسمياً.
ومن الحياة النيابية، نذهب إلى مؤشر بالغ الأهمية لتعلقه بالإنجاز وقدرة الدولة على تحقيقه. لم يشهد الأردن خلال العقدين الأخيرين إنشاء أي مشروع تنموي يُعتد به سوى ما يُعرف بالباص السريع، الذي يتمنى مواطنون كُثُر لو أنه لم يكن. بدأ هذا المشروع متعثراً عام 2009، وما يزال العمل به قائماً منذ أحَدَ عشر عاماً. لم يلبث ان توقف عام 2011، وتشكلت لجنة لدراسته برئاسة وزير الأشغال آنذاك، يحي الكسبي، رفعت تقريراً لرئيس الوزراء أكدت فيه عدم إمكانية تنفيذ المشروع. ومع ذلك استؤنِفَ العملُ في تنفيذه عام 2013. وظل بين مدٍّ وجزر، حتى قررت أمانة عمان أخيراً مواصلة التنفيذ. ووضعت سقفاً زمنياً لإنبعاث الدخان الأبيض من شرفات المشروع "العظيم"، نهاية عام 2021.
حكومات عديدة تشكلت وذهبت، وما يزال مشروع الباص السريع أو "الصريع" كما يحلو لأردنيين كثيرين تسميته مُحِقِّين، مثالاً فاقعاً للتخبط الإداري وسوء التخطيط. لقد تسبب باختناقات مرورية وازمات عانى منها كثيراً سكان العاصمة، لولا تدخل "كورونا" العارض ودوره في تخفيف حدتها. وأحال حياة الموظفين والعاملين إلى جحيم، عدا عن تأثيراته الضارة بأعمال تجار العاصمة، وخاصة في منطقة طبربور.
ونضيف إلى ما ذكرنا، مديونية عالية لا تتوقف عن الارتفاع، وبطالة تلقي بظلالها الداكنة على 24% من القوى العاملة.
على صعيد الفقر، تبلغ نسبته المعلنة رسمياً 15,7%، وهناك توقعات بتزايد عدد الفقراء في الأردن نتيجة جائحة كورونا.
فقد كشف البنك الدولي في توقعات حديثة، أن يتزايد عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 1,3 دينار يومياً، وهو خط الفقر المدقع عالمياً، بنسبة 27% عام 2020 مقارنة بالعام الماضي، وعدد الذين يعيشون على أقل من 2,25 دينار يومياً إلى 19%، والذين يعيشون على أقل من 3,9 دينار يومياً إلى 13,2%.
أظننا أوردنا من المؤشرات ما يثبت تراجع الأردن في مختلف المجالات، وأهمها على الإطلاق بالنسبة لنا رغيف الخبز والتعليم. فمن دون الإكتفاء الذاتي في إنتاج الأول والإبداع في الثاني، لا يمكن الحديث بثقة عن حاضر آمن ومستقبل مطمئن.
لعل القارئ لاحظ أننا لم نتطرق إلى السياسة الخارجية. فهذه مرتبطة بالأوضاع الداخلية حذوك النعل بالنعل، كقاعدة عامة. فإذا كانت الثانية بخير، ثَقُلت موازين الأولى بالضرورة.
مختصر القول، لا مجال للتراجع أكثر، وإلا تحول التراجع إذا تمادى إلى خطر وجودي!