لقد أفضت هذه الأزمة الصحية لكوفيد-19 إلى العديد من الحواجز الجديدة وبسرعة مذهلة، وقد دفعت الإجراءات التي تمّ وضعها من قبل الدول من إغلاق الحدود وحظر السفر والحد من سلاسل التوريد والقيود على التصدير، الكثيرين إلى التساؤل إذا كانت العولمة والأعمال التجارية الدولية قد تقع ضحية للفيروس التاجي؟ لقد شهدت العولمة تراجعا ملحوظا قبل فترة طويلة من تفشي هذا الفيروس، إذ إنها لم تتعافَ منذ بلوغها ذروتها قبل الأزمة المالية العالمية في 2008. إن هذه الجائحة تركز على المخاطر الكامنة في الاعتماد على سلاسل التوريد وأعمال التجارة العالمية، والتشديد على إعادة توطين الإنتاج، والحث على الاعتماد التبادل الدولي، وهذا بدوره أدى إلى زيادة وتيرة التغيرات التي كانت تتحرك منذ فترة طويلة نحو إيجاد شكل جديد ومختلف للعولمة الاقتصادية.
إن للترابط العالمي والتبادل للسلع والخدمات ورأس المال والأشخاص والأفكار فوائد لا يمكن إنكارها. ولكن خلال هذه الجائحة دخلت مخاطر تبعية الوعي العام بشكل كامل. فعلى سبيل المثال أن 72% من المرافق التي تنتج المكونات الصيدلانية للاستهلاك الأمريكي تقع في الخارج، معظمها في الاتحاد الأوروبي والهند والصين، وكذلك فرنسا وألمانيا لم تغلقا حدودهما فحسب، بل منعت تصدير أقنعة الوجه حتى إلى الدول الصديقة. إن فكرة الاعتماد على التبادل الدولي جديرة بإعادة التفكير عندما تحارب كل دولة فجأة من أجل نفسها. إن الأزمة الحقيقية والمباشرة تتعلق بالإمداد والطلب، لكن مما يزيد من صدمة الإمداد هو تراجع الطلب بسبب منع الناس من الخروج من بيوتهم، وعدم توافر البضائع والخدمات التي تعوَّدوا على استهلاكها، فالإمداد يفشل لأن الشركات تغلق أبوابها أو تخفض من قدراتها لحماية الموظفين من الإصابة بفيروس كورونا المستجد، ولا يمكن لأسعار الفائدة المنخفضة التعويض عن النقص في العمال الذين سيتوقفون عن العمل، بالإضافة إلى أن سعر فائدة منخفضاً لن يعوِّض الإمدادات التي تمت خسارتها في اليوم أو الأسبوع أو الشهر التالي.
إن هذا الفيروس - في أيامه الأولى - أظهر هشاشة سلاسل التوريد وحفز الاستجابات الوطنية بدلا من الاستجابات الدولية، وأظهر أيضا أن الحكومة الوطنية لا تزال الفاعل الأساسي والملاذ الأخير لمواجهة هذا الفيروس والعواقب الاقتصادية. ومن المرجح أن يرى العالم نسخة مختلفة ومحدودة من التكامل العالمي عن تلك التي عرفناها على مدى العقود الثلاثة الماضية. إن المؤشرات الرئيسة تحمل التغيير: فقبل كوفيد-19 كانت تجارة السلع العالمية لا تزال ترتفع، لكن نسبة إلى إجمالي الناتج للاقتصاد العالمي، فحصّة التجارة والتدفقات المالية عبر الحدود اليوم أقلّ مقارنة بما قبل الأزمة المالية في عام 2007، وتوقّف التقدم في المزيد من تحرير التجارة العالمية فلم يعد اجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي إلى أعلى مستوياته منذ أكثر من عقد من الزمان.
يعتقد الكثيرون أن العولمة قد بشّرت بالمنافسة العالمية والمنافسة الموسعة وعدم المساواة الموسعة بين الدول وداخلها، ويبدو أن هذه الجائحة هي التهديد المشترك الذي يمكن أن يؤدي إلى عهد جديد من التعاون الدولي. وفي الواقع، فقد اتخذت الحكومات -حتى الآن- قرارات كانت إلى حد كبير من تلقاء نفسها، ومع القليل من التشاور، فقد عقدت مجموعة العشرين قمة طارئة للقادة العالميين عن طريق المؤتمر عن بعد، وأنتجت بيانًا لطيفًا للتعهدات المجردة، ولكنها محرومة من أية التزامات محددة، فقد اشترت الحكومة الصينية إنتاج البلاد لأقنعة الوجه بدلاً من رؤيتها تُباع، وحظرت الحكومات الأوروبية الرئيسة تصديرها مؤقتًا، فأزمة الفيروس التاجي عالمية، لكن الردود كانت وطنية حتى الآن.
إن العالم يواجه احتمال العودة إلى الاقتصاد الطبيعي بالاعتماد على النفس، وهذا مغاير لمفهوم العولمة، فإن العودة إلى الاقتصاد الطبيعي تعني تحرك الدول نحو اقتصاد الاعتماد على الذات، فالتحول إلى الاقتصاد الطبيعي لن يكون مدفوعا بالضغوط الاقتصادية العادية، ولكن بمظاهر قلق أساسية تتمثل بمرض وبائي والخوف من الموت، ولهذا السبب فقد تكون الإجراءات الاقتصادية القياسية مسكنة من الناحية الطبيعية، فهي تستطيع، ويجب أن توفر الحماية للناس الذين يخسرون وظائفهم، وليس لديهم ما يستندون عليه، أو ممن لا تأمين صحيا لديهم، وبهذا المعنى أصبح الناس غير قادرين على دفع فواتيرهم، وسيخلق هذا صدمات متتالية من البيوت إلى أزمات المصارف.
فكلما طال أمد الأزمة ظهرت المعوقات أمام حركة الناس والبضائع ورأس المال، وتحول الوضع إلى حالة عادية، فالمصالح الخاصة التي ستظهر ستحاول الحفاظ عليه، بالإضافة إلى أن المخاوف من ظهور وباء جديد قد تفتح الباب أمام دعوات للاكتفاء الذاتي على الصعيد الوطني، وبهذا المعنى فإن المصالح الاقتصادية والمخاوف الصحية المشروعة تصبح مترابطة، مع أن هذا التحرك ليس محتوما، فلو استطاعت الحكومات الوطنية السيطرة على الأزمة الحالية أو تجاوزها خلال الأشهر المقبلة أو في عام، فإن هناك إمكانية لعودة العالم إلى طريق العولمة.
إن هناك حجة واضحة تدعو إلى تنسيق الاستجابة على المستوى الدولي لأثار الانتشار الواسع لهذا الوباء على مستوى عدد كبير من البلدان، والروابط الاقتصادية الواسعة العابرة للحدود، وكذلك الآثار الكبيرة على الثقة والتي تحد من النشاط الاقتصادي وتؤثر على الأسواق المالية وأسواق السلع الأولية، فيجب على المجتمع الدولي أن يساعد البلدان التي لديها قدرات محدودة في مجال الصحة لكي تتجنب وقوع كارثة إنسانية، ويجب على صندوق النقد الدولي دعم البلدان المعرضة للخطر من خلال تسهيلات الإقراض المختلفةلبلدان الأسواق الصاعدة ومنخفضة الدخل.
د. غيث ناصر العيطان
الأستاذ المشارك في الاقتصاد والمالية/ جامعة آل البيت