الأنباط -
الأنباط -الشعب العراقي يعيش في آتون عنف دموي شبه يومي ، بدأ مع الاحتلال الأميركي وتفكيك تماسك وحدة نسيج المجتمع العراقي عبر ترسيخ الطائفية والمذهبية من قبل الحاكم الامريكي بول بريمر .
ان التاريخ الانساني يؤكد ان ظاهرة العنف في العراق ليست وليدة العصر الحالي، بل ان حضارات العراق القديمة شهدت العديد من مظاهر العنف والاقتتال، ولذلك فانه وللوهلة الاولى يبدو الشعب العراقي شعبا عنيفا وان العنف جزء اصيل في تركيبته الانسانية ويؤكد هذا التصور النظري ان التاريخ الانساني يسجل الارث الدامي في العراق عبر حضاراته المختلفة مما يجعله من أكثر الشعوب تطرفا.
غير ان علماء متخصصين في تاريخ العراق وشعبه عبر التاريخ درسوا سيكولوجية الشعب العراق وجدوه اكثر ميلا للزعامة ، وانه متقلب المزاج بين البداوة والمدينة، وانه لا يرضى عن حاله وسرعان ما ينقلب عليه.
ويستدل البعض من هؤلاء الباحثين على صحة هذه الفرضية بما نقل عن ابن الأثير : " فلما مرض معاوية مرضه الذي مات فيه، دعا ابنه يزيد فقال: انظر أهل العراق، فان سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فأفعل، فان عزل عامل أيسر من أن تشهر عليك مائة الف سيف".
وهذه المقولة تعكس في تحليل بعض المتخصصين ادراك " معاوية " سرعة تقلب مزاج العراقيين وعدم رضاهم عن الحكام وميلهم للقيادة والزعامة.
وكما تذكر بعض الآثار التاريخية، أن الاسكندر المقدوني كتب إلى أستاذه الفيلسوف أرسطو، بعد فتحه العراق عام 331 قبل الميلاد: «لقد أعياني أهل العراق، ما أجريت عليهم حيلة إلا وجدتهم قد سبقوني إلى التخلص منها، فلا استطيع الإيقاع بهم، ولا حيلة لي معهم إلا أن اقتلهم عن آخرهم".
ووفقا لهذه التصورات، فان أهل العراق يوصفون بأنهم أهل فطنة وذكاء، وان هذا الذكاء يدفعهم إلى ممارسة الجدل والنقد و قلة الطاعة ومعصية حكامهم ، ما يسهم في ظهور العنف .
إن رسالة الجاحظ (أحد كبار أئمة الأدب في العصر العباسي ) ، ارجعت احد أسباب عصيان أهل العراق على الأمراء إلى أنهم " أهل نظر وفطنة ثاقبة، ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤوساء وإظهار عيوب الأمراء. ويضيف.. وما زال العراق موصوفا بقلة الطاعة وبالشقاق على أولي الرئاسة" .
ما يعني أن نزعة الجدل في الشخصية العراقية بجانب سماتها الشخصية من الأنفة والكبرياء والزهو والتمسك بالرأي قد جعل قيادتهم من أي حاكم أمرا شديد الصعوبة .
إن العنف هو الطابع الغالب في الحياة السياسية العراقية قديما وحديثا. ولهذا العنف جذوره التاريخية والاجتماعية والثقافية والطبيعية، ومن بينها تعرض العراق على مدار التاريخ الانساني لمذابح وانتهاكات كبرى اقترفها غزاة ومحتلون اجانب مثل هولاكو وتيمور لنك ومن قبلهما الحجاج والخلفاء الأمويين وما اقترفه السلطان مراد أوالصفويون ضد الشيعة أو السنة في العراق، والمذبحة التي نفذها الولاة العثمانيون بحق المماليك.
تلك الشواهد التاريخية تؤكد ان العراقيين لقرون طويلة ما زالوا ضحايا الاستبداد والعنف والقهر والقمع ما جعل العنف إرثا ملازما لهم، بدءاً من حكم نبوخذ نصر، مرورا بمأساة كربلاء وطغيان الحجاج واستبداد المنصور والسفاح وهجوم المغول واستباحتهم لبغداد ،وكافة أشكال الاستبداد والقمع والحروب والحصار والمقابر الجماعية لنظام صدام حسين وانتهاء بالاحتلال الامريكي الغاشم وما افرز ويفرزه من فوضى ودمار وصراعات اثنية وعرقية ودينية وطائفية ، و الأعمال الإرهابية ذات الآيديولوجية التكفيرية، التي أتت علي الاخضر واليابس ولم ترحم المدنيين العُزَّل من الأطفال والنساء والشيوخ .
ان المآسي التاريخية التي تعرض لها شعب العراق عبر الحضارات المختلفة قد أثرت سلبا على التكوين النفسي للإنسان العراقي، وجعلته شديد البأس في مواجهة أي خطر قد يستشعره بحسه التاريخي، و قلقاً ومتوتراً وغير مستقر على حال، يغلفه ميراث من الحزن والأسى عبرت عنها أساطيره وأشعاره وأغانيه.
إن العنف في العراق عبر التاريخ جاء دائما من جانب الجيوش الغازية من الشرق أو من القبائل البدوية من الغرب، كما حدث مؤخرا مع الغزو الامريكي للعراق الذي هدم مؤسسات الدول جيشا وشرطة واقتصاد وانتهك حرمات التاريخ وسلب الخزائن التاريخية في المتاحف العراقية ليطمس الذاكرة الحضارية للعراقيين.
ولعل المشهد اليومي للعنف واراقة الدماء في العراق يؤكد استمرار ميراث ثقيل من تاريخ العنف الدموي الذي دفع ثمنه ابناء العراق نتيجة غزو بلادهم، مما اورثه ثقافة العنف المكتسب كرد فعل على اعتداء الاخرين.
إن العراق لم يهنأ بالاستقرار السياسي الا لفترات قصيرة، بسبب تواصل الصراع السياسي والعسكري العنيف، وما ترتب عليه من سجناء ومعتقلين واعدامات، مثلما حدث في الحرب العراقية الايرانية التي أسفرت عن مقتل وجرح ما يقرب من مليون عراقي ، اضافة الى 100 الف قتيل في حرب الخليج الثانية، وانتفاضة اذار عام 1991 في الوسط والجنوب. ونجم عن هذه الحروب ضحايا واسر مشتتة واطفال يتامى بلا نهاية وصولا لما آل اليه حال العراق بعد الغزو العراقي وتداعياته حتى يومنا هذا.
وأدى انخراط مئات الاف الاباء في القوات المسلحة والاعمال المساندة الي انحسار في دور الأب في الاسرة وتراجعه، ما انتج مشاكل اسرية، انعكست على التربية الاجتماعية للاطفال، وفقدان الاطفال للثقة بالنفس وبالاخرين والامن والسلامة، والشعور بالتعرض للاذى، وقد اجبرت العديد من عوائل الاطفال على العمل، مما ادى لانتشار ظاهرة اطفال الشوارع بأعداد كبيرة وهي في تنامي مستمر.
يتعرض ان الأمية تتفشى بين أطفال الشوارع الذين يتعرضون لمخاطر تسفر عن الكثير من المآسي ، وتقودهم ظروفهم الاجتماعية الي الانحدار في مهاوي الرذيلة، حيث يصبحون فريسة للاستغلال الجسدي، مستغلين ضعفهم وصغر سنهم، وعدم قدرتهم على رد الاساءة، والاعتداء عليهم ذكورًا و اناثا.
كما تتفشى بين اطفال الشوراع ظاهرة الادمان على التدخين والمخدرات، حيث اكدت بعض الدراسات ان 90% من المتسولين والاطفال العاملين يتعاطون التدخين في محاولتهم تقليد الكبار والاخطر من ذلك الادمان على المخدرات المحلية المتوفرة في الاسواق .
إن حماية الاطفال العراقيين من ان التحول الى اطفال شوارع رهن بتغيير ثقافة العنف المنتشرة في المجتمع وبذل أقصى الجهود لنشر ثقافة التسامح، وهذا لن يتحقق بمعزل عن نبذ التطاحن السياسي والعمل على مواجهة الفتن الطائفية والمذهبية ، والشروع في إعادة اعمار العراق وفق اجندة وطنية تلتزم بوحدة العراق واستقراره الامني والسياسي ، ووضع برامج للتنمية الاقتصادية المستدامة ودعم المؤسسات المعنية برعاية أطفال الشوراع تربويا واجتماعيا واقتصاديا .