ذكرني منظر الصوامع في العقبة والتي كانت تستخدم لتخزين مستورداتنا من القمح وهي تتهاوى ركاماً بعد ان نجحت ًعملية تفجيرها الثانية بأيام زمان
و رحم الله ايّام زمان ، ايام الماضي الجميل ، ًايام ما كنا نزرع قمحنا ونطحنه ونخبزه ونأكله ونصدره ولم نكن بحاجة الى صوامع لتخزينه . كان موسم حصاد القمح موسم أعياد وأفراح تسدد به الديون ويتزوج الأبناء ويتم شراء مستلزمات العام ويتم حمد الله على نعمته وفضله . كان الجميع وبعد موسم الحصاد والبذار يقومون بالتزود بحاجتهم من القمح على مدى العام ، وكان في كل منزل مكانُّ مخصصُّ لتخزين القمح ولم نكن بحاجة لصوامع عامة لتخزينه . واذكر الشاحنة الصغيرة التي كانت تنقل الينا القمح وهي تقف على باب منزلنا ويتم تنزيل حاجتنا من القمح منها . واذكر والدتي رحمها الله وهي تقوم بغربلة وتنقية اكياس القمح كل كيس على حده . وما ان تنتهي من الكيس الاول حتى نذهب الى اقرب مطحنة علينا ونحضر عاملها ومعه حمار المطحنة حيث يتم تحميل شوال القمح عليه وأخذه اليها ، ونذهب نحن الأولاد معه حتى نشاهد عملية الطحن ونسمع صوت بابور المطحنة العالي الذي يصم الآذان ولا يسمح لأحد بسماع اي حديث الا اذا كان صراخاً . وبعد انتهاء عملية الطحن نعود مع الطحين للبيت لتبدأ عملية العجين اليومية في الطشت المخصص لذلك ويتم وضع الخميرة البلدية عليه والتي هي عبارة عن قطعة من عجنة الامس تترك في كوب او صحن لليوم التالي لكي تتخمر وتوضع على العجينة الجديدة والتي تترك بعدها لفترة قصيرة من الزمن حتى تخمر ثم تأتي بعدها عملية تقطيعها وفردها ووضعها على الفرش الخاص بها ، ثم ترسل الى الفرن لخبزها ، لنتناول بعدها أشهى رغيف خبر ساخن وطري . ثم يتم لف البقية الباقية بقطعة قماش لكي يبقى محافظاً على ليونته وطراوته وطعمه . هذا غير الأكلات الموسمية التي كانت تعمل بالقمح مثل السنينيه والسليقه وغيرها .
الى ان تبدل الحال بغير حال ، وأغرقوا اسواقنا بقمح المساعدات الامريكية وتم استبدال الرغيف المعجون والمخبوز بالأفران بدلاً من خبز المنازل ، وكان في البداية يصنع بطريقة بدائية مثل الذي يصنع في البيت ، ثم حل محله خبز المخابز الآلية والطحين الأبيض الذي يخلوا من أي مواد صحية وأصبح يتم استعمال الخميرة الجاهزة التي افقدت الخبز طعمه وسهولة هضمه . واستسهل الناس هذه العملية وتوقف مزارعينا عن زراعة القمح وخبزه وأصبحوا يشترون الخبز الجاهز . وأُغلقت كل الافران القديمة التقليدية . واقيمت الصوامع لتخزين القمح المستورد وخلت منازلنا منه .
اما الاراضي الزراعية فقد هجرها مزارعوها وتركوها أرضاً قفرا . ثم أصبحت سلعة تباع وتشترى وتقام عليها الصناديق الاسمنتية والتي امتدت الى كل مكان بحيث لم يبقى لدينا أرضاً تزرع ولا قمحاً ينتج . وأصبحنا نستورد قمحنا بعد توقف قمح المساعدات بأسعار عالية كانت تزداد باستمرار . وبدأت قصة دعم الخبز لتوفير هذه السلعة بأسعار معقولة للمواطنين الى ان عجزت الحكومات عن دعمه بعد ان رهنت نفسها لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليتم رفع الدعم عن هذه المادة الأساسية والاستراتيجية وليتضاعف سعرها وليصبح هذا السعر عبأً كبيراً على عاتق الطبقات الوسطى والمسحوقة وليصبح توفير رغيف الخبز مصدر همنا بعد ان كان مصدر سعادتنا ولتصبح شحنة القمح وسيلة لأخضاعنا وتنازلنا عن مواقفنا بعد ان كان رمز كرامتنا .
آهٍ كم احن الى منظر سنابل القمح وحصادية بمناجلهم وبيادرة والى وصوت بابور القمح والى خبز امي .