ستعود سوريا لجامعة الدول العربية، وسيعود العرب إلى سوريا... المسألة مسألة وقت لا أكثر، هذا ما تشي به مختلف تطورات الإقليم، وما تشف عنه جملة التحركات والاتصالات بين عواصم المنطقة ذات الصلة، ما ظهر منها وما خفي.
ما جرى في القاهرة يوم الأحد الفائت، في اجتماع المندوبين الدائمين، وما سيجري فيها الأربعاء المقبل، لا يقدمان ولا يؤخران ... حالة التردد والمراوحة في مواقف بعض العواصم العربية، هي انعكاس لحالة التردد والارتباك التي تخيّم على صناعة القرار الأمريكي في عهد الرئيس ترامب ... ترامب الذي طلب انسحاباً سريعاً ومبكراً من سوريا، عاد ومنح فرصة أكبر لتنفيذ قراره، استجابة لضغوط «الدولة العميقة» في واشنطن من جهة، وإفساحاً في المجال أمام حلفاء واشنطن، وبالأخص إسرائيل، لإعادة تقدير الموقف وتقرير شكل الاستجابة الفضلى للقرار الأمريكي من جهة ثانية.
وكان لافتاً، أن اثنين من كبار أركان إدارة ترامب، أخذا يجوبان المنطقة طولاً وعرضاً، بعد قرار الرئيس ... جون بولتون تعهد بالحلفاء غير العرب: تركيا وإسرائيل، ومايك بومبيو أخذ على اتفاقه أمر التنسيق مع مجموعة دول (6 + 2) والتي تضم إلى جانب دول الخليج الست، كل من الأردن والمغرب، وسط أنباء متطايرة عن محاولة لإقناع تركيا بعدم «الانقضاض» على وحدات الحماية وقوات سوريا الديمقراطية، وطمأنة إسرائيل إلى استمرار الالتزام الأمريكي بمحاربة إيران في كل مكان، وتحديداً في سوريا، وبشتى الطرق الممكنة والمتاحة، قبل قرار وبعده ... أما مع الجانب العربي، فإن البحث لن يستثني إمكانية العودة للفكرة القديمة: إرسال قوات عربية إلى شمال شرق سوريا لتحل محل القوات الأمريكية المنسحبة، وباعتبارها أول مهمة وتكليف لما أسمته واشنطن «الناتو العربي».
واشنطن المنسحبة ميدانياً من سوريا (أرض الموت والرمال) كما وصفها ترامب شخصياً، تاركاً الحرية لإيران وروسيا أن تفعلا فيها ما تشاءان (والقول له أيضاً)، واشنطن هذه، وتحديداً «دولتها العميقة» لا تريد للفراغ الأمريكي أن يُملأ من قبل الجيش السوري، ولا للنظام في دمشق، أن يبسط سيطرته على أكثر من ربع مساحة سوريا الخاضع لحكم الأكراد وحماية «التحالف الدولي» ... وهي أيضاً لا تريد لتركيا أن تملأ كل هذا الفراغ، مع أنها لا تمانع، شأنها في ذلك شأن روسيا، في تمكين تركيا من الاحتفاظ بـ»حزام أمني» على طول حدودها مع سوريا، فتلكم «بؤرة توتر»، وسبب في انقسام داخلي مستديم بين «ثلاثي أستانا» من جهة، وبين تركيا وسوريا من جهة ثانية، وهذا أمرٌ تريده واشنطن، طالما أنه سيُبقي حاجة أنقرة إليها قائمة، وطالما أنه سيمكنها من حماية الأكراد بعد تخفيض سقف توقعاتهم، وطالما أنه سيشكل بؤرة استنزاف مستدامة لروسيا وإيران ودورهما في سوريا.
أستبعد تماماً أن تستجيب الدول العربية لطلب أمريكي بإرسال قوات إلى سوريا، لا أحد لديه القدرة على فعل ذلك، ولا واحدة من هذه العواصم، لديها الثقة بأن قواتها هناك، لن تغرق في الرمال السورية المتحركة ... وحين تُخيّر كثير من العواصم العربية الكبرى بين تنامي النفوذ التركي في الشمال السوري، وعودة النظام لملء الفراغ الأمريكي، فإن معظمها سيختار دمشق، وليس أنقرة، وربما هذا ما يفسر موجة «الحجيج العربي إلى دمشق» التي تعاظمت مؤخراً.
لكن ما يجعل القرار صعباً على العواصم العربية الكبرى النافذة، أن شبح إيران يخيم فوق رؤوسها وهي تفكر بإعادة سوريا إلى الجامعة والعودة إلى دمشق، ومن هنا تنطلق الحاجة لانتزاع موقف مسبق من دمشق، تتعهد فيه بتقليص النفوذ الإيراني في سوريا إن تعذر إنهاؤه، وهو تعهد يصعب على دمشق أن تصدره أو أن تلزم نفسها به، وذاكرتها ما زالت حيّة وطازجة بالتصريحات والمواقف العربية التي تهددت الأسد بالرحيل سلماً أو الترحيل قسراً وبقوة السلاح ... هنا، وهنا بالذات يكمن سر التردد والمراوحة العربيين، ولكن إلى حين، أو إلى أجل قريب على الأرجح.