نقل الزميل والصديق هشال العضايلة، مراسل 'الغد' في الكرك، عن المحافظ قوله للصحفيين في لقاء سابق، إن محافظة الكرك تشهد في الوقت الحالي 29 جلوة عشائرية.
بمعنى آخر، هناك مئات العائلات ارتكب أفراد ينتسبون إليها جرائم قتل، فهجروا بيوتهم ومدارسهم وأعمالهم، وانتقلوا للحياة في محافظات بعيدة. وأعرف عن كثب أفراد عائلات من بين هؤلاء عانوا أشد الظروف بسبب هذه الهجرة القسرية، ودفعوا ثمنا باهظا من حياتهم لجريمة لا ذنب لهم فيها.
لعقود سابقة، كانت الجلوة العشائرية ومثلها 'العطوة' في الأردن سبيلا لحقن الدماء بين العشائر؛ إذ يفرض على أقارب الجاني حتى الجد الخامس مغادرة المحافظة إلى منطقة بعيدة. وبعد سنوات من الجدل والمحاولات لتطوير العرف العشائري الذي تكرس قانونا مع الزمن، تم التوافق على اقتصار الجلوة على الأقارب حتى الجد الثالث. ذلك يعني في أحسن الأحوال ترحيل ما لا يقل عن خمسين شخصا في حالة العائلات الصغيرة، وقد يتضاعف الرقم مرات عدة في العشائر الكبيرة.
ولطالما كان مبدأ الجلوة محل نقد لاذع من قانونيين ومؤسسات مجتمع مدني وحقوق إنسان. وفي أوساط الدولة، لن تجد من هو مقتنع بسلامة المبدأ من الناحيتين القانونية والأخلاقية. لكن أحدا لا يجرؤ على اتخاذ قرار بإلغاء الجلوة العشائرية بوصفها مطلبا إصلاحيا يدعم في مبدأ سيادة القانون المدني على جميع المواطنين، لأننا جميعا نعلم العواقب الوخيمة المترتبة على فرض الخطوة على الناس من دون قبول ورضا من أغلبيتهم.
ففي حال أصر الحاكم الإداري على عدم الاستجابة لطلب الجلوة، ستكون حياة كل من يتربط مع الجاني بصلة قرابة في خطر أكيد، وبدل جريمة واحدة سترتكب جرائم عدة، وينفتح باب واسع على أعمال الثأر والانتقام، تهدد بشكل جدي الأمن والاستقرار.
لا شك أن مبدأ الجلوة العشائرية ينتمي لزمن ما قبل الدولة، لكن المجتمعات القائمة على قوة العشيرة والقبيلة ما تزال ترفض الامتثال لمنطق الدولة وسيادة القانون، ويصعب أن تفرض عليها هذه القناعة إذا لم تبدأ عملية إصلاح اجتماعي عميقة وطويلة.
وفي بلدان كثيرة، ما تزال للمجتمعات المحلية خاصياتها الثقافية وتقاليدها المتوارثة التي ترفض التخلي عنها رغم مظاهر الحداثة وتطور أنظمة الحكم الديمقراطي فيها. وعادة ما تترك فرصة للمصالحة العشائرية للحد من الآثار السلبية للجلوة. وفي حادثة القتل الأخيرة في الكرك التي راح ضحيتها شاب من عشيرة النوايسة، تصرف والد المرحوم الشاب بنبل وكبرياء، عندما عفا عن القاتل تاركا للقانون يأخذ مجراه، مما قد يساعد على اختصار معاناة عشيرة القاتل مع الجلوة.
ما أود قوله هنا إن عملية الإصلاح الشامل التي نطمح إليها على جميع المستويات ليست قرارات وتشريعات تتحقق بكبسة زر، إنما هي في الأساس عملية ثقافية واجتماعية لن تبلغ غاياتها المنشودة قبل أن تتحقق التحولات الاجتماعية كشرط حاسم للتقدم على مسارات الإصلاح السياسي والاقتصادي، وتثبيت أركان سيادة القانون على الجميع.
رحلتنا على هذا الصعيد طويلة طويلة.
الغد