عن"فتحية" و "عبد الصمد"
وليد حسني
تركت فتحية"أم العبد" باب حوش دارها مواربا بنصف فتحة فقط حتى تستطيع إحصاء المارين من أمام بابها، وهي عادة قديمة ورثتها عن امها عن جدتها، والأهم ان كل نساء الحارة يفعلن ذلك ويتركن نصف الأبواب الخارجية لمنازلهن مفتوحة للغاية نفسها.
فتحية تجاوزت الخمسين بسنتين لكنها وللحقيقة فان كل من يراها لا يشعر أبدا ان تلك المرأة المكتنزة دهنا ولحما في العقد الخامس من عمرها فقط، بينما مظهرها وكل جغرافيتها تصرخ في كل من يراها بأنها امرأة في السبعين او قاربت على الدخول في عقدها السابع.
وفتحية التي قضت كامل حياتها عزباء رافضة كل الذين تقدموا لطلب يدها لا تكترث كثيرا لمن يغرمون بالتحديق فيها، وحتى اولئك الذين يعرفونها منذ كانت طفلة من اطفال الحارة العتيقة لا يجرؤون على الحديث في عمرها، ويحترمونها كثيرا ويقدرون تضحياتها التي تفوق الخيال من اجل عائلتها وجيرانها، وبالرغم من كل ما تمتلكه من تاريخ متخم بالتضحيات فان احدا لا يذكر إن كان ثمة احد من عائلتها زارها او تردد عليها منذ نحو عشر سنوات او اكثر حتى اخوها الأصغر وفور تزوجه غادرها وغادر منزل والديه ولم يعد اليه نهائيا.
فتحية التي تحمل لقب "أم العبد" لم تلد ولم تولد ولا عبد لديها وإنما حملت اللقب من شقيقها الأكبر "عبد الصمد"، الذي اختفى من حياتها تماما، هرب عبد الصمد من منزله قبل ثلاثين سنة هو الآخر ولم يعد للبيت وحتى هذه اللحظة فان فتحية او حتى أحدا من اهل الحارة لا يعرف اين القت المقادير بعبد الصمد، واين طوحت الحياة به.
حين اختفى عبد الصمد كانت فتحية لا تزال في الثانية والعشرين من عمرها، ولم يكن عبد الصمد ليفكر ولو لمرة واحدة ان شقيقته الوحيدة فتحية سيحدث لها ما حدث، فقد كانت عائدة من السوق برفقة أمها حين اعترضها بلطجي من بلطجية وزعران السوق، وتحرش بها، فجأة تقدم اليها وقرصها من خدها وضرب بيده على صدرها المكتنز وقبل ان تفيق فتحية وامها من هول الصدمة كان الأزعر يضع يده على مؤخرتها، ولولا صراخ فتحية وتجمهر الناس في السوق لربما لم يتركها البلطجي تنجو من مخالبه.
بعد ساعات قليلة كانت سيرة فتحية على كل لسان في المخيم، واصبحت فتحية بنت ابو العبد مجرد علكة تلوكها الألسن، ولم يمض يوم واحد فقط حتى أصبحت قصة فتحية حديث الناس وكثرت الروايات وتعددت التفسيرات والتأويلات، وفتحية آخر من يعلم وكذلك عائلتها الصغيرة.
احدى الروايات زعمت ان فتحية هي التي خالفت الأعراف وأمسكت بالبلطجي وقبلته من شفتيه كما يحدث في التلفزيون، ورواية اخرى قالت ان البلطجي وفتحية كادا ان يمارسا الرذيلة في السوق وامام الناس، وفي رواية ثالثة قال أصحابها ان فتحية على علاقة سابقة بالبلطجي ورفض والدها زواجه منها وهي حامل منه في الشهر الرابع.
ولعل احدث الروايات التي سرت في المخيم مسرى النار في الهشيم تلك التي زعمت ان والد فتحية ذبحها ظهر اليوم بالسكين امام الناس ليغسل عاره وان الشرطة اغلقت الحارة واعتقلت الأب، وتحفظت على جثة فتحية.
في اليوم التالي للحادثة بدت فتحية في مزاج مختلف، بحث عبد الصمد عن البلطجي بصحبة أصدقاء له وأشبعوه ضربا، إلا أن الروايات المختلقة عن علاقة فتحية بذلك البلطجي سبقت وصول عبد الصمد الى منزل والديه، في الوقت الذي لم يتحدث أحد فيه عن تاديب عبد الصمد للبلطجي، وكأن حادثة التأديب لم تحدث أصلا، فقط افتتن الناس بقصة فتحية وحكايتها في السوق.
عندما علم والدا فتحية بالقصص التي تتداولها الحارات عن فتحية أصيبا معا بازمتين قلبيتين وماتا بعد شهرين، وعبد الصمد غادر المنزل ولم يعد اليه، وظل شقيقها الأصغر في رعايتها حتى إذا ما تزوج غادر هو الآخر المنزل ولم يعد اليه.
فقط ظلت فتحية تدفع ثمن اكاذيب الناس واختلاقهم للروايات والقصص الباطلة، وظلت تتجرع جريمة تحرش لم تكن لها اية يد فيها، ولهذا رفضت الزواج حتى لا يخرج احد ذات يوم ويذكرها بحادثة لا دخل لها بها وإنما كانت مظلومة ومكلومة نتيجة بلطجة وزعرنة شاب منحل لم يجد من يردعه.
قضت فتحية كامل ايامها وسنيها في منزلها وحيدة تتذكر ما فات من زمان، وتلوك غصة الظلم والقهر في كل دقيقة تمر بها، تعيش حياتها من وظيفة في مركز توزيع المساعدات على اللاجئين وتتقاضى راتبا يكفيها من وكالة الغوث ويعفيها من مؤونة سؤال الناس..
فقط كانت في كل ليلة تضع رأسها على وسادتها تذرف دمعة حرى وتسأل..
ــ أين أنت يا عبد الصمد..؟؟؟//