الأنباط -
حاتم النعيمات
بعد كميات الشتاء الغزيرة التي حظيت بها محافظة الكرك وأدت إلى الكثير من الإنهيارات والفيضانات، تحرك فريق وزاري مختص إلى المحافظة بتكليف من دولة رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان للوقوف على الأضرار الناجمة، ولترك أثر إيجابي لدى الكثير من أهل المحافظة، بعد، بطبيعية الحال الزيارة ردة فعل تحاول تحاول اللحاق بالتخطيط وليس العكس، لكن فيها تحمّل للمسؤولية جيد ويحترم.
في البداية، دعونا نتفق أن رئيس الحكومة ميداني بشكل استثنائي لم نره منذ عدة عقود، وكلمة ميداني لا تعني أنه يقوم بمجرد زيارات خارج المكاتب، بل تعني أيضًا قدرته على حل المشاكل بالمعاينة الشخصية القريبة، والتأسيس لما يتبعها من محاسبة ومتابعة لتلك الحلول، وهذا الطابع ظهر على وزراء الحكومة، ونهج المحاسبة الحتمية دون تقادم هذا هو أهم ما ينقص الإدارة العامة الأردنية.
مشاكل محافظة الكرك مركبة مثل ضعف التنمية وقلة فرص العمل، حالها حال جميع محافظات المملكة وهذا كله مسؤولية الحكومات دون نقاش، ومنها ما هو بسيط وخاص بالكرك نفسها؛ وأتحدث هنا عن الإدارة المحلية المنتخبة فيها، والتي تعاني منذ أكثر من عقد من صعوبات كثيرة ومشاكل جوهرية.
من الواضح أن الكثير من مشاكل الإدارة المحلية في المحافظة مرتبط بالخارطة السياسية والانتخابية، تلك الخارطة التي أنتجت في كثير من الأحيان حالة من الجفاء بين الواقع وبين سلوك الإدارات المحلية، فأنا ابن هذه المحافظة، والكثير من أبنائها يدركون أن الأيدولوجيات ما زالت تسيطر على الفضاء العام فيها، فلا يمكن إنكار سطوة الفكر القومي واليساري والإخواني على خيارات جزء مؤثر من الناخبين فيها. بصراحة، القصة ليست مجرد عارض، بل ظاهرة تستحق التأمل والدراسة.
في كثير من المناسبات تحركت بعض قيادات الإدارة المحلية بشكل يتجاوز العمل الخدمي والبلدي إلى ما هو عابر لحدود الكرك والمملكة باتجاه الإقليم والعالم حتى!. وأنا هنا لا أبتغي الحجر على الآراء بقدر ما أطالب بإعادة بترتيب الأولويات يشكل منطقي، فلا يمكن أن تكون الأدارة المحلية معنية بالحدث الإقليمي أكثر من خدمات الناس(!!)، ولا يمكن أيضًا أن يقبل البعض من الجمهور بفتات المعنويات والرمزيات على حساب كعكة حقوقهم وما هو مادي ملموس. فهناك على الطرف الآخر من يقيّم الإدارة المحلية بما يراه من خدمات وتطوير ولا يعنيه التوجهات الأممية والعواطف.
في المحصلة وجد الكثير من الناس أنفسهم فس خالة فقدان للثقة بالعمل العام المحلي برمته، فقد ترسخت حالة من التناقض بين حاجات الناس والواقع نتيجة إغراق المجتمع بالوهم والرمزيات. أدى ذلك إلى انحراف خيارات جزء مؤثر من الناخبين إلى الفائدة الشخصية اللحظية، وانعكس ذلك على وصول أشخاص غير مؤهلين في الكثير من الأحيان إلى مفاصل الإدارة المحلية، كنتيجة، وجدنا أنفسنا أمام قوة تصويتية مقسومة في معظمها إلى قسمين: قسم يبحث عن مصالحه الخاصة، وقسم يريد تعاطي الشعبويات والقرارات الرمزية. والنتيجة تراكم الأزمات والمشاكل كما رأينا بأعيننا، وما الخراب الذي تسببت به الأمطار الأخيرة إلا مظهر واحد من مظاهر تراجع الإدارة المحلية.
الكارثة أن هذا الواقع أجبر الكثير من الأشخاص أصحاب الكفاءة على عزل أنفسهم عن العمل العام برمته، وانحصرت خيارات الناس في أسفل سلم التقدير. لذلك، فإن أهل المحافظة مطالبين اليوم بوقفة تأمُّل جدية تفضي مراجعة شاملة تشجّع الأكفأ على الدخول إلى هذا المجال المهم؛ فالإدارة المحلية بالمناسبة تعتبر من أهم روافع التنمية في أي بلد، ولا يمكن أن يتم التعامل معها إلا بجدية.
لتكن الأمطار الغزيرة الأخيرة دعوة للمراجعة، ودافع للوقوف أمام حدث كاشف ومحفز لبدء نقاش عام، نقاش يقوده تفكير من الواقع إلى العقل لا من الوهم إلى الوهم، فالكرك محافظة عظيمة ولها تاريخها وحضورها ولا يمكن أن تضيع بهذه الصورة.
الخلل واضح رغم محاولة البعض إطلاق قنابل الدخان بين الحين والآخر، ونحن اليوم أمام حاجة مُلحة لإيجاد حالة إدارية محلية تكنوقراطية لتضميد الجروح إلى أن تتكون حالة حزبية محلية وطنية (غير مرتبطة بالخارج) ضمن سياق الإصلاح السياسي.
نحن الآن أمام فرصة بوجود رئيس وزراء نشيط وميداني قد لا يتكرر بسهولة في المستقبل بصراحة، ولا يوجد ما يمنع أن تتكاتف الجهود لاستعادة آلية تقييم المسؤولين المحليين بعيدًا عن العواطف والتوجهات البعيدة عن الإختصاص والوظيفة. فترسيخ آلية عملية للاختيار مهم في ظل التغيرات التي تحصل للخارطة السياسية والحزبية في الأردن اليوم. فلا يعقل أن تعبُر الإدارات المحلية في المملكة إلى الحالة البرامجية والعملية وتبقى الإدارة المحلية في الكرك في وضعها الحالي.