البث المباشر
اختتام 2025 بإنجازات نوعية وتطوير مستمر ودعم متواصل للمجتمع ومختلف القطاعات.. ترامب وبوتين من جديد أسرة جامعة عمان الأهلية تنعي المرحوم أ.د. يعقوب حيدر حمدان الخيرية الهاشمية ومركز الملك سلمان يختتمان مشروع كفالات الأيتام كنعان: معاناة فلسطين تتصدر مآسي المنطقة مع دخول العالم عام 2026 انخفاض أسعار الذهب في السوق المحلي بمقدار دينار 4100 ميجا واط الحمل الكهربائي الأقصى المسجل أمس الاحد بلدية غزة: غرق وتطاير لآلاف خيم النازحين صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية .. تمكين للإنسان واستثمار بالمستقبل مصرع 13 شخصا وإصابة 98 جراء خروج قطار عن مساره بالمكسيك "الإدارة المحلية" تدعو إلى توخي الحذر من المنخفض قصير المدة وعالي الفعالية هل فعلا في العالم يُحارَب المنجز والانجاز ؟ هل ينحني التاريخ لأصحاب الإرادة الصلبة؟ كم نحن بحاجة إلى تراوري ومهاتير في الأردن الرواد رئيسا لمجلس الاتحاد العربي للأسمدة للدورة المقبلة 16وفاة جراء حريق دار للمسنين في إندونيسيا الأرصاد الجوية تحذّر من ضباب كثيف في العديد من مناطق العاصمة وفيات الإثنين 29 - 12 - 2025 التربية: قاعات امتحان الثانوية العامة مجهزة بوسائل التدفئة المختلفة 1864طنا من الخضار ترد للسوق المركزي اليوم

هل ينحني التاريخ لأصحاب الإرادة الصلبة؟

هل ينحني التاريخ لأصحاب الإرادة الصلبة
الأنباط -

د. أيوب أبودية

في التاريخ لحظاتٌ يصبح فيها الموت أقلّ قسوةً من التنازل، وتغدو الخسارة الجسدية أهون من خيانة الموقف الأخلاقي. في تلك اللحظات، تتقدّم شخصيات وجماعات اختارت أن تدفع الثمن كاملاً، لا لأن الموت غاية، بل لأن العيش بلا كرامة هزيمةٌ أبقى. من كيتو الرواقي في روما، إلى سقراط في أثينا، وصولاً إلى النضال الفلسطيني في غزة اليوم، تتكرر الحكاية نفسها بأسماء وأزمنة مختلفة، ويقف في الجهة المقابلة دائماً منطق القوة، والبراغماتية العارية، وتبرير الظلم باسم "الواقعية”.

كيتو الأصغر (Cato the Younger) مثّل الضمير الأخير للجمهورية الرومانية في لحظة أفولها. حين انتصر يوليوس قيصر عسكرياً، لم يكن كيتو يجهل أن الهزيمة واقعة، لكنه رفض أن يمنح الشرعية الأخلاقية لنظام يقوم على الحكم الفردي وتقويض الجمهورية. عُرض عليه العفو والمكانة، لكنه رأى في قبولها اعترافاً بانتصار الطغيان. فاختار الانتحار، لا بوصفه هروباً من الحياة، بل كفعل احتجاج أخلاقي أخير: جسده يُهزم، لكن فكرته لا تُدجَّن. في الجهة المقابلة، وقف من انحازوا إلى قيصر باسم "الاستقرار” و”إنهاء الفوضى”، فذكر التاريخ كيتو وأهمل الأخرين، فهي الحجج نفسها التي تتكرر كلما طُلب من المظلوم أن يصمت.

سقراط، قبل كيتو بثلاثة قرون، واجه محكمة مدينته بتهمة إفساد الشباب وإنكار آلهة أثينا. كان بإمكانه الهرب، أو المساومة، أو التراجع عن أفكاره، لكنه رفض. لم يرَ في العدالة إجراءً قانونياً فحسب، بل التزاماً أخلاقياً حتى حين تكون القوانين جائرة. موته بالسم لم يكن تمجيداً للفناء، بل دفاعاً عن فكرة أن الحقيقة لا تُقاس برضا الأغلبية ولا بقوة الدولة. خصومه مثّلوا الخوف من السؤال الحر، ومن العقل الذي يفضح التناقضات. قتلوه ليحفظوا النظام، فخلّدوه وخسروا أنفسهم.

هاتان الحالتان ليستا استثناءين بطوليين معزولين، بل نموذجاً متكرراً في التاريخ: حين تتقاطع الأخلاق مع القوة، يُطالَب صاحب الموقف أن "يكون واقعياً”، أي أن يتخلى عمّا يؤمن به. هذا ما يجعل المقارنة مع النضال الفلسطيني في غزة اليوم مقارنة أخلاقية قبل أن تكون سياسية. الفلسطيني في غزة لا يواجه خياراً نظرياً بين الحياة والموت، بل واقعاً تُسلب فيه الحياة نفسها: حصار، قصف، تدمير ممنهج للبنية الاجتماعية والإنسانية. ومع ذلك، يُطلب منه أن يتنازل عن حقه في المقاومة، وأن يقبل بالهزيمة بوصفها ”حكمة”.

في غزة، كما في روما وأثينا، لا يُحتفى بالموت لذاته. الناس يريدون الحياة، لكنها الحياة التي لا تُشترى بالتخلي عن الكرامة أو الاعتراف بشرعية القهر والاحتلال. حين يواصل مجتمعٌ محاصر الصمود، فهو لا يختار الموت، بل يرفض شروط العيش التي تُفرض عليه بوصفه أقلّ من إنسان. في الجهة المقابلة، يقف خطاب القوة العسكرية، مدعوماً بمنطق "الأمن” و”الردع” و”الضرورة”، وهي اللغة نفسها التي استخدمها خصوم سقراط لحماية المدينة، وأنصار قيصر لإنقاذ روما من نفسها.

وهناك أمثلة معاصرة واضحة لشخصيات وجماعات اختارت تحمّل الموت أو السجن أو التدمير بدل التنازل الأخلاقي، وهي امتداد حديث لما مثّله سقراط وكيتو. نيلسون مانديلا (جنوب أفريقيا) كان يمكنه الخروج من السجن مبكرًا لو قبل نبذ الكفاح السياسي والاعتراف بشرعية نظام الفصل العنصري. رفض ذلك صراحة، وقضى 27 عامًا في السجن. لم يختر الموت الجسدي، لكنه قبل بـ«موت العمر» بدل التنازل الأخلاقي. في المقابل، وقف نظام الأبارتهايد وأنصاره باسم "القانون” و”الأمن”.

كذلك ستيف بيكو (جنوب أفريقيا)
منظّر حركة الوعي الأسود، رفض أي تسوية نفسية أو سياسية تُبقي السود في موقع التابع، فمات تحت التعذيب عام 1977. السلطة كانت تطالبه بالصمت لا أكثر، لكنه اعتبر الصمت مشاركة في الجريمة.

ومحمد بوعزيزي (تونس) لم يكن سياسيًا، لكنه حين أُهين وسُلب حقه في العمل والكرامة، أحرق جسده احتجاجًا. لم يكن يبحث عن الموت، بل عن اعتراف أخلاقي بإنسانيته. السلطة المحلية التي سحقته كانت تمارس "القانون” بلا عدالة.

وإدوارد سنودن لم يمت، لكنه قبل بالمنفى الدائم وخسارة الوطن والحياة الطبيعية بدل التراجع عن كشف نظام مراقبة عالمي غير أخلاقي. خُيّر بين الصمت والراحة أو الحقيقة والمنفى، فاختار الثانية.

وفي مثال شديد القسوة والمعاصرة، يخوض الأسرى الفلسطينين إضرابات قد تنتهي بالموت، لا طلبًا له، بل رفضًا للاعتقال الإداري بلا محاكمة. الجسد هنا يتحول إلى أداة أخلاقية أخيرة حين تُغلق كل السبل القانونية. كذلك المدافعون عن الحق الفلسطيني من جنسيات مختلفة يضربون الان عن الطعام في لندن، فالسلطة تعرض النجاة مقابل الصمت، أو الحياة مقابل التنازل، أو الأمان مقابل الاعتراف بشرعية الظلم. والطرف الآخر يجيب، كما أجاب سقراط وكيتو: ليس كل ما يُبقي الإنسان حيًا يجعله إنسانًا.

الفارق بين الطرفين ليس في حب الحياة أو كرهها، بل في تعريفها. كيتو وسقراط، وأهل غزة والمضربون في لندن اليوم، يرون أن الحياة بلا عدالة فراغٌ مؤجَّل. خصومهم يرون أن العدالة ترفٌ يمكن تأجيله إلى ما بعد إخضاع الآخر. فالتاريخ، حين يُكتب بعد أن يبرد الدم، لا يحتفظ طويلاً بحجج القوة، لكنه يتوقف طويلاً عند لحظات الرفض الأخلاقي.

قد يُهزم أصحاب المواقف في زمنهم، وقد يُوصَمون بالعناد أو التطرف، لكنهم يربحون معركة المعنى وذاكرة التاريخ. من هنا، لا تبدو غزة اليوم استثناءً مأساوياً، بل امتداداً لسلسلة طويلة من البشر الذين قالوا، وبطرق مختلفة، إن بعض القيم أثمن من البقاء، وإن التاريخ – مهما تأخر – يميل في النهاية إلى الانحناء أمام من رفضوا التنازل.
© جميع الحقوق محفوظة صحيفة الأنباط 2024
تصميم و تطوير