الأنباط - د. عمّار محمد الرجوب
نهاية العام ليست رقماً يُطوى في دفتر الوقت، بل امتحان وعيٍ، ومِرآةُ أُممٍ ترى في الخاتمة بدايةً أخرى أكثر نضجاً. في هذا المفصل الدقيق من التاريخ، يقف الأردن لا ليستريح، بل ليتأمل ما اجتازه من دروب، وما تعلّمه من العواصف، وما صانه من معنى الدولة حين تشتدّ الرياح. هنا، حيث السياسة تلتقي بالأخلاق، والاقتصاد يتكئ على الصبر، والهوية تُختبر ولا تنكسر.
في لحظاتٍ بعينها، لا يكون الصمت فراغاً، بل امتلاءً خفياً بما لا تحتمله اللغة. هناك، عند تخوم التفكير العميق، يدرك الإنسان أن القوة ليست في كثرة الخطوات، بل في وضوح الاتجاه، وأن النضج الحقيقي لا يُقاس بما نملكه من إجابات، بل بقدرتنا على التعايش الشريف مع الأسئلة. النفس، حين تُرهقها الضوضاء، لا تبحث عن الهروب، بل عن معنى يعيد ترتيب الداخل، ويمنح القلب حقه في الفهم قبل الحكم.
كان العام المنصرم ثقيلاً في ميزان الإقليم، سريعاً في إيقاع التحولات، لكن الأردن اختار أن يمشي بثبات العارف، لا بضجيج المتردد. وفي قلب هذا الثبات، كان جلالة الملك عبد الله الثاني المعظّم يمارس قيادة تتجاوز اللحظة إلى البوصلة؛ قيادةٌ تُحسن الإصغاء للعالم دون أن تُفرّط بصوت الداخل. تحركاته السياسية جاءت بوصفها لغة اتزانٍ نادرة، تُعيد الاعتبار لفكرة الدولة العاقلة في زمن الاستقطاب، وتؤكد أن المصالح لا تُدار بالصخب، بل بالحكمة، وبشبكة علاقات تحفظ الكرامة وتُراكم الثقة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، لم تكن التحديات أقل قسوة؛ ضغوط عالمية، وتحوّلات إقليمية، ومسؤولية اجتماعية تفرض أن يبقى الإنسان في صدارة القرار. أما الداخل الأردني، فكان مسرحاً لامتحان الصبر الجمعي: تعليمٌ يُعاد التفكير فيه بوصفه مشروع هوية لا مجرد مناهج، وشبابٌ يُراهن عليه باعتباره طاقة تغيير لا رقماً في الإحصاءات، ومؤسساتٌ تتعلّم—ببطءٍ وصدق—أن الإصلاح مسارٌ لا شعار.
ثم نكتشف، متأخرين قليلاً، أن الحياة لا تطلب منا البطولة الدائمة، بل الصدق مع ذواتنا، وأن أقسى الهزائم هي تلك التي لا يراها أحد سوانا. في هذا السياق، تصبح الفلسفة ضرورة نفسية لا ترفاً ذهنياً؛ هي أن تتعلم كيف تمشي مستقيم الروح في عالمٍ مائل، وكيف تحفظ إنسانيتك دون أن تخسر واقعيّتك. هكذا كان الأردن في هذا العام: واعياً بلا غرور، قوياً بلا قسوة، وحاضراً في زمنٍ يحاول باستمرار أن يسرق المعنى.
وأقول أنا: إن نهاية العام ليست نهاية الطريق، بل لحظة صدقٍ مع الذات؛ من لم يُحاسب فكره، لن يُحسن صناعة غده.
هكذا يدخل الأردن عامه الجديد، لا مُثقلاً بالأسئلة، بل مسلّحاً بها. فالأمم الحيّة لا تخاف السؤال، بل تخشى الغفلة. ومع قيادةٍ تعرف متى تتقدّم، ومتى تُناور، ومتى تصمت لتسمع، يبقى الأمل ممارسةً لا أمنية. إننا لا نكتب نهاية عامٍ مضى، بل نوقّع على عهدٍ جديد: أن تكون السياسة أخلاقاً، والتعليم هوية، والاقتصاد عدالة، والوطن معنى يُعاش لا شعاراً يُرفع.
نمشي على دربِ البلادِ كأننا
نحمي المعاني كي تظلَّ حيّه
إن ضاقَ وقتُ الأرضِ عن أحلامِنا
وسعَ الوطنُ القلبَ… وكانت نيّه