الأنباط -
عماد عبدالقادر عمرو
يُعدّ ملف المنح الخارجية أحد الركائز الأساسية في تمويل المشاريع الرأسمالية، لما يوفره من فرص حقيقية لدعم قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والبنية التحتية والخدمات العامة. غير أن التجربة العملية تشير إلى أن المشكلة لا تكمن في توفر المنح أو حجمها، بل في منظومة إدارتها ومدى مواءمتها مع الواقع التنفيذي للمشاريع. خلال السنوات الماضية، برز نمط متكرر من التعثر يمكن وصفه بـ "متلازمة المنح والدراسات الهندسية”، حيث تتقاطع المنح مع مشاريع غير جاهزة فنياً أو إدارياً، ما يؤدي إلى تأخير التنفيذ أو إعادة تصميم المشاريع أو فقدان التمويل بالكامل، وما يرافق ذلك من كلف مباشرة وغير مباشرة على المال العام.
في العديد من الحالات، يتم إدراج مشاريع ضمن برامج التمويل الخارجي قبل استكمال متطلبات أساسية يفترض أن تكون محسومة مسبقاً، مثل تخصيص الأرض أو تحديد الموقع النهائي أو إعداد دراسة هندسية واقعية تعكس طبيعة المشروع واحتياجاته الفعلية. هذه الفجوة بين توفر التمويل وجاهزية المشروع تخلق سلسلة من الإشكاليات، فالممول ينتظر بدء التنفيذ ضمن جدول زمني محدد بينما الجهة المنفذة ما زالت تبحث في إجراءات أولية كان يفترض إنجازها قبل وقت طويل. النتيجة غالباً تكون تأخيراً مكلفاً أو إعادة تفاوض أو حتى إلغاء التمويل.
تمثل الدراسات الهندسية حجر الأساس لأي مشروع رأسمالي ناجح، إلا أن الواقع يشير إلى أنها تُنجز أحياناً دون ارتباط حقيقي بقرار تنفيذ نهائي أو دون ضمان توفر الأرض أو حتى التأكد من انسجام المشروع مع شروط التمويل. في هذه الحالات، تتحول الدراسة من أداة تخطيط إلى بند إنفاق فقط، حيث تُصرف مبالغ كبيرة على دراسات لا ترى طريقها إلى التنفيذ أو تُعاد صياغتها لاحقاً بسبب تغيّر الموقع أو متطلبات التمويل. هذا النوع من الهدر غالباً ما يكون غير ظاهر للرأي العام، لكنه يشكّل عبئاً حقيقياً على الخزينة.
من مظاهر الخلل أيضاً تخصيص موازنات محلية لمشاريع، ثم يتبين لاحقاً أن هذه المشاريع مشمولة أصلاً بتمويل خارجي. هذا التضارب لا يعكس فقط ضعف التنسيق، بل يكشف عن غياب رؤية شمولية تربط بين مصادر التمويل المختلفة وتمنع الازدواجية في الصرف. في ظل هذا الواقع، تتجمد أموال كان من الممكن توجيهها لمشاريع أخرى أكثر أولوية، فيما يبقى المشروع الأصلي معلقاً بانتظار استكمال الإجراءات المرتبطة بالمنحة.
ويزداد المشهد تعقيداً عندما نشير إلى نتائج تقرير ديوان المحاسبة لعام 2024، الذي كشف عن وجود هدر في المنح الخارجية تجاوز عشرات الملايين من الدنانير، وهو رقم صادم يوضح حجم الفرص التنموية الضائعة. هذا الهدر ليس مجرد أرقام مالية، بل يعكس إخفاقاً مؤسسياً في ربط التمويل بجاهزية المشاريع وتنفيذها الفعلي، ويظهر بوضوح ثغرة في آليات التخطيط والمتابعة. فحتى في وجود التمويل الكافي، فإن غياب التنسيق والشفافية ووضوح الخطوات التنفيذية يؤدي إلى تحويل هذه المنح إلى موارد غير مستغلة، بدل أن تكون أداة للنهوض بالمشاريع الحيوية وتحقيق أثر اقتصادي ملموس.
من المفترض أن تكون بيانات المنح الخارجية من حيث القيمة والمصدر والقطاع والمدة الزمنية معروفة ومحددة مسبقاً، وغالباً ضمن أطر متوسطة المدى. إلا أن هذه المعلومات لا تُدار دائماً ضمن منظومة شفافة ومتكاملة تتيح للجهات المعنية الاطلاع عليها والاستفادة منها في التخطيط المسبق. غياب هذا التدفق المعلوماتي يؤدي إلى عمل مؤسساتي مجزأ، حيث تتخذ القرارات بمعزل عن الصورة الكاملة، ما يضاعف فرص التعثر والهدر.
إن جوهر المشكلة لا يرتبط بإجراء بعينه أو جهة محددة، بل بثقافة إدارة المشاريع الرأسمالية. ثقافة تميل أحياناً إلى التركيز على تأمين التمويل قبل ضمان الجاهزية، وإنجاز الدراسات قبل تثبيت القرار التنفيذي، وتسجيل الاتفاقيات أكثر من متابعة نتائجها. التنمية، في جوهرها، ليست سلسلة من الملفات الإدارية، بل عملية متكاملة تتطلب وضوحاً في القرار، وتسلسلاً منطقياً في الخطوات، وربطاً صارماً بين التمويل والتنفيذ.
إن الحد من الهدر في ملف المنح لا يتطلب حلولاً معقدة بقدر ما يتطلب إعادة ترتيب الأولويات وبناء منظومة تخطيط أكثر انسجاماً تضمن ربط المنح بمستوى جاهزية حقيقي قبل إدراج المشاريع، وعدم الشروع في دراسات هندسية دون قرار تنفيذ واضح، وتوحيد قواعد البيانات المتعلقة بالتمويل والمشاريع، وتعزيز الشفافية والمساءلة في مراحل ما قبل التنفيذ. فالمنح الخارجية، إذا أُحسن إدارتها، يمكن أن تشكّل رافعة تنموية حقيقية، أما إذا استمرت إدارتها بذات النهج المجزأ، فستبقى سبباً في تعثر المشاريع وهدر الفرص، بدل أن تكون أداة للنهوض الاقتصادي والخدمي.
رئيس مجلس محافظة العقبة سابقاً