كتّاب الأنباط

الجامد والجاحد واللامبالي ...

{clean_title}
الأنباط - إبراهيم أبوحويله ...


ان السياسة الشرعية تتغير بتغير أهل الحل والعقد ، فعندما كتب الماوردي الأحكام السلطانية كان الشيعة قد استولو على الحكم وكانت الخلافة العباسية مجردة من كل شيء ، وكان الحكم للمستبد الغالب ، فنظر الماوردي فيما يُصلح الأمة ويصلح للأمة فجاءت أحكامه غير متفقة مع فترات كانت فيها الغلبة للخلافة .

وقفت هنا وأردت أن أقول الخلافة العادلة والتي كان تحقق معظمها في أزمان مثل الخلافة الراشدة والنبوة ، وتحقق وبعضها في أزمان أخرى ، ولكني أدرك تماما من حجم ما اطلعت عليه من هذا التاريخ الذي ملأ مئات بل ألاف بل مئات ألاف من الصفحات ، بأن العدالة كانت دائما مطمحا ومطمعا ولم تتحقق كلا على هذه الأرض ، بل كانت هناك أجزاء وأيام وبعض من العدل ، فهناك ازمان تجاوز الظلم حده ، وما زمن الحجاج وامثاله بغريبة ولا بعيدة عن التحقيق والذاكرة والدرس والدراسة ، نعم كانت الغلبة لأمر الإسلام في المجمل ، ولكن هذا المجمل إذا أردت أن تخوض في تفاصيله ، رأيت الكثير الذي يحتاج إلى التحقيق .

أقول هذا الكلام لأني أريد من الجميع أن يعلم بأن العدل المطلق لم يكن في يوم قائم على هذه الأرض ، وليس هذا مطلوبا هنا وهذا متعلق بمنطق الإمتحان والابتلاء { وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰۤ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَفَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَرَكَـٰتࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا۟ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ } ، فلا يستقيم ان تكون الارض للامتحان والتمايز بين البشر، وان تكون هناك سلطة تفرض عدالة مطلقة بين البشر ، بل لا بد من السعي لتحقيق هذه المفاهيم ، مع ما يرافق السعي من اصابة وخطأ وانحراف ونكران .

نعم نسعى للعدل بكل ما نملك من قوة وندافع عنه بكل الوسائل ، ولكنه لم يكن يوم قائم بكليته هنا ، ولذلك كان المقصد الأعظم للشريعة هو جلب المصالح ما إستطعنا إلى ذلك سبيلا ، ودرء المفاسد ما إستطعنا إلى ذلك سبيلا ، وهنا تتضح الرؤية لمن يسعى لها بأن العدالة على هذه الأرض منقوصة ولكن مع ذلك يجب أن نسعى إليها .

ومع هذا إذا كثر الخبث وزاد الظلم وإنتشر ، عندها قد يقع المحذور بأن نهلك جميعا بعقاب أو خسف أو غيره ، كما في حديث زينب في الصحيحين وعندها قالت زينب بنت جحش لرسول الله صل الله عليه وسلم ( أنهلك وفينا الصالحون ) قال (نعم إذا كثر الخبث ) نعم إذا كثر الخبث .

كان شكيب أرسلان الدرزي الذي إتبع مدرسة الإمام محمد عبده وسعى لإصلاح حال الأمة يخشى من هذه الثلاث ، الجاحد والجامد واللامبالي .

لقد إختصرت هذه المصطلحات التي أطلقها شكيب أرسلان كما كبيرا ، نعم بين من يريد أن يطبق الدين بدون فهم لمقاصده وأهدافه ، وبدون معرفة للطبيعة الإنسانية والعصر وما يحتاج كل منهما ، فيسعى لإعادة صورة عشقها ورأى فيها عدلا ونموذجا يحتذى ، فهو يريدها كما هي بلا زيادة ولا نقصان .

ولم يدرك أن الفقه أصول وأن الدين مقاصد ، وأن ما يصلح لزمان لا يصلح لأخر وما يصلح لمنطقة لا يصلح لأخرى وما يصلح لفئة التجار لا يصلح لفئة الفقهاء .

فالبعض يرى الامة تسير في طريق الهلاك والتراجع ويرى الفساد ، ويعلم أثر هذا الإنحراف الأخلاقي والمالي والإجتماعي والديني على الأمة ويسكت.

كأن الموضوع لا يخصه من قريب ولا بعيد ، نحن هنا لا نتكلم عن تلك الأمور التي تحتمل الخلاف ولا هي محل الإجتهاد .

ونتكلم عن انحراف فكري عقدي مثلا ، البعض يحمل فكرا هداما او لا يصلح للبناء والاجتماع على أساسه، ولن يكون قيام المجتمع والحضارة ممكنا بوجوده ، فهو يكفر هذا او يفسق ذاك او يصنف على اساس جماعته وفهمه، فهذا موال للكفار وذلك طاغية ، مع انه لو اطلع على التاريخ بحق لرأى ما فعل من يظن هو ظنا أنهم ولاة أمر وليسوا طغاة ، وهذا ليس مبرر للسكوت على الظلم الواضح ، ومحاربة للضلال وأهله ، ولكن دعوة للتريث والتمييزعلى أساس ديني علمي ، ولو نظرت إلى ما حدث في التاريخ الإسلامي نظرة محقق وباحث لأدركت حجم التجاوزات في التاريخ من أهل التاريخ ، وما حدث في الثورات الخمس في فجر الاسلام دليل على ذلك .

ولذلك لا بد من عودة قوية على كثير من المفاهيم وتصويبها لانها من عوامل الهدم في الامة .

وهناك انحراف مالي وسرقة ورشوة ووضع للمال في غير مكانه الصحيح المتفق على صحته والمجمع عليه وليس من قبيل الإشاعة والتهمة .

وتلك الأخلاق التي تؤثر على المجتمع من غش وكذب وظلم وتجاوز في الحقوق وسكوت على الباطل واهله والظلم بأنواعه .

تلك الأخلاق التي تؤثر على الأمة وعلى تقدم الأمة وعلى إستقرار الأمة هي من أسباب الفشل الذي نعيشه اليوم .

وما بلينا به في هذا الزمن من تلك الفئة التي تأخذ الدين على أنه لباس معين ودور عبادة معينة وجماعة معينة واشخاص معينون ، فمن هو منهم ومعهم فهم أهل الحق وخاصته وهؤلاء لهم ميزان يختلف قي الحكم والمعاملة ، ويفعل في حياته ما يشاء بعد ذلك ولا اعمم طبعا ولكن هناك ظاهرة ظاهرة في التصنيف والمعاملة ، فهو يحمل شهادة من حزبه وجماعته وبراءة منهم ، وتجد بعضهم بلا أخلاق تعاملية ولا ذمة ولا ضميرا ونتكلم عن فئة محدودة طبعا فتنتشر صور سلبية عن الدين والمتدينين ، هذا وأمثاله أماتوا الدين على الأمة وفي الأمة .

وبين من يرى بأن الماضي كله ماض ويجب تجاوزه إلى غيره ، جحود كامل لكل ما يتصل بالدين .

ويا ليت هذا وأمثاله لديهم القدرة والعقل والحكمة ليخرجوا لنا منهجا تسير عليه البشرية .

ولكنه شذرات أفكار وبعض النظريات وقليل من الثقافة العابرة للزمن والتي لم تصلح في زمانها ولا مكانها حتى تكون لنا منهجا .

فكل من إطلع على التاريخ يدرك حجم معاناة البشر من البشر ومن هذه المناهج التي تحمل نظريات قاصرة .

ولا تَصلح ولا تُصلح ، وما الشيوعية ولا الرأسمالية ولا امبريالية ولا تبعية للغرب ولا الشرق ، ببعيد عن هذا بل هي إمتداد لهذا الجهد البشري الذي يجحد بما بين يديه ثم يريد بعد ذلك أن يبدع منهجا ، فلا بقي غرابا ولا أصبح طاوسا .

وبين اللامبالي والجاحد والجامد ضاعت أمة.

تابعو الأنباط على google news
 
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الأنباط © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الأنباط )