رغم مذاقها الحلو، فإن أضرار السكريات على الأطفال كبيرة، وقد لا تتخيّلها مطلقاً. غالباً ما يفرح الآباء برغبة صغارهم في تناولها؛ فيلتقطون الصور ويسجلون مقاطع مصوّرة وهم يتذوقون الحلوى للمرة الأولى.
هذا طفلٌ يغوص داخل كعكة ميلاده الأول، وتلك طفلة تظهر وهي تغرف كميات كبيرة من السكاكر، في مقاطع الفيديو والريلز عبر مواقع التواصل الاجتماعي. احتفاءٌ جماعي يلقى إعجاب الجمهور المتلقي، ويحصد آلاف علامات الإعجاب.
لكن ما قد لا يعرفه كثيرون أن شهية الأطفال تتغيّر تدريجياً عقب دخول السكر إلى نظامهم الغذائي. لذلك، يصبح "الزن" و"الصراخ" أسلوب ضغطٍ متواصل، مع ابتزازٍ عاطفي عنيف من جانب الطفل الذي يصل أحياناً إلى حدّ الإضراب عن تناول الطعام حتى يحصل على مزيدٍ من الحلوى.
إصرارٌ يدفع العديد من الأمهات والآباء إلى الإذعان للصغير، فبرأيهم "المهم يأكل أي حاجة". لكن في الواقع، ورغم عشرات الدراسات التي تتحدث عن أضرار السكريات، إلا أن بعض الدراسات التي صدرت مؤخراً تؤكد أن تناول السكريات في مرحلةٍ مبكرة من العمر لا يؤثر على الشهية ويسبّب بعض الأمراض وحسب، بل إن المسألة تصل إلى تحديد طول العمر وجودة الشيخوخة، وتغيير الجينات أيضاً!
لماذا نرضخ دائماً رغم معرفتنا بأضرار السكريات؟
يلجأ طفلا سعدة أشرف إلى وصلة صراخٍ متواصلة، من أجل الحصول على السكريات والحلوى، لدرجة أن الشابة ذات الـ30 عاماً، تعاني من صداعٍ نصفي مزمن.
وهكذا تضطر إلى منحهما البسكويت تارةً والعصائر تارةً أخرى، وتقول لـ"عربي بوست": "في البداية كنت أفرح حين ينهي صغيراي علبة عصيرٍ كاملة، وأشعر أنني أم جيدة، لكني مع الوقت بدأت أفهم أن العصائر الجاهزة ما هي إلا سكر وماء وبعض من الفاكهة بقدرٍ بسيط".
وتضيف: "حين اكتشفتُ أضرار السكريات، علمتُ أني في الواقع أضرّ صغيرَيّ وشهيتهما. لكن الأوان كان قد فات، لأن الحلوى كانت تحوّلت إلى ما يشبه المخدرات وصار الصراخ وسيلة ضغطٍ مستمرة".
تؤكد سعدة أنها في فترات الضغط العصبي، تلجأ إلى الوعد بمنحهما السكريات في حال توقفا عن إحداث الفوضى والصراخ: "فتبدأ رحلة لا نهائية من الإلحاح كي أنفذ وعدي، وحين أنفذه، تزداد الطلبات من جديد".
وتروي لنا حين بقيت صغيرتها تطالبها بالحلوى طوال اليوم، وحين رفضت، أعلنت الصغيرة ما يشبه الإضراب عن الطعام: "ظلت يوماً كاملاً من دون أن تتناول شيئاً. عند نهاية اليوم، وأمام إصرارها الشديد، رضختُ وأنا أعلم أن هذا سوف يُدخلني إلى دوامة جهنمية من الابتزاز، وهو ما أعاني منه الآن فعلاً".
مهما حاولت الأمهات تحديد كمية الحلويات المسموح بتناولها في اليوم، يخرج الأمر عن السيطرة دائماً، لا محالة.
مريم بدر الدين، أم شابة لطفلتين، تحاول دائماً أن تضع حداً لكمية السكريات التي يُمكن لهما تناولها على مدار اليوم. لكنها، ورغم الحرص الشديد، ترضخ في أوقات عديدة، وتقول لـ"عربي بوست":
"في الأوقات العادية لا تتناول صغيرتاي الحلوى سوى مرة واحدة في اليوم، وربما لا يحدث هذا. لكن أكثر وقتٍ أكون مضطرة فيه للرضوخ، هو حين نكون داخل السوبر ماركت".
تؤكد مريم أن الأمر يتحول إلى مأساة، لا سيما مع البكاء، كما تُشير إلى أنها ترضخ لطلباتهما حين يكونان خارج المنزل وتشعر أي منهما بالجوع، فتضطر إلى شراء أي شيء سريع لتتناولاه. وتضيف: "وبالطبع، أرضخ كلياً حين نزور والدتي، فأي طلبٍ مُجاب مهما كان، على سبيل التدليل".
من جهتها، باتت سارة محمد تعلم جيداً ألاعيب صغيريها، وتقول لـ"عربي بوست": "أحياناً يحصل ابني وابنتي على السكريات أكثر من مرة في اليوم الواحد، خاصة إذا كنا في زيارةٍ للأجداد".
لكنها تؤكد أنها لا تستخدم الحلوى أبداً كوسيلةٍ لإسكاتهما، وتضيف: "انتبهتُ مبكراً لهذا الأمر، وفي المقابل أستخدمها كمكافأة في حال أحسنوا التصرف. ومع ذلك، لا يحصل أحد على الحلوى أكثر من مرتين يومياً".
من يتذوق السكر حقاً.. اللسان أم المعدة؟
مما لا شكّ فيه أن الوعي بشأن أضرار السكريات إلى النظام الصحي للطفل في سنواته الأولى يزداد يوماً بعد يوم، لا سيما مع الحديث عمّا تسبّبه من مخاطر لصحة القلب ونمو العظام، بل احتمالات الإصابة بمرض السكري.
لكن هل يعني ذلك أنه من المتوقع أن يتراجع استهلاك السكريات، مقابل تنامي الوعي بأهمية الأطعمة الصحية؟ الإجابة عن هذا السؤال حملتها دراسة، نُشرت في مايو/أيار 2022، حول مستقبل استهلاك وصناعة الحلوى.
خلُصت الدراسة إلى أنه من غير المتوقع حدوث انخفاضٍ كبير في استهلاك الحلويات، لأنها تساهم في رفع مستوى المزاج، كما أن أغلب مستهلكيها هم من الأطفال.
لذا، ورغم زيادة تفضيل المستهلكين وطلبهم على الأغذية الصحية، إلا أنه في الفترات المقبلة ستكون هناك أساليب وتصميمات مبتكرة لمنتجات الحلويات؛ من حيث العمر الافتراضي، والتعبئة، والتغليف، ووضع العلامات، مع اتباع أساليب جديدة لرفع السلوك الاستهلاكي، والإبقاء على نسب الإنتاج.
باختصار يبقى الوضع على ما هو عليه، ربما لأن ثمة عادات راسخة مرتبطة بالسكريات، أشهرها تناول الحلو بعد الطعام مباشرة، وكذلك اللجوء إلى السكريات عند الشعور بالاكتئاب أو القلق والحزن، ناهيك عن عادة تناول المشروبات الغازية، والتي تلعب دوراً محورياً في إصابات وبائية على مستوى العالم بالسمنة والأمراض المزمنة.
لكن ما المغري حقاً بشأن السكريات؟ وهل الرغبة في تناول السكر مصدرها اللسان أم العقل؟ في الواقع، عندما يتعلق الأمر بالسكر، فإن الرغبة في تناوله مصدرها القناة الهضمية.
وحتى عندما يضعف المذاق الحلو، تستطيع خلايا الاثنى عشر -المُسمّاة بخلايا الأرجل العصبية- الكشف عن الغلوكوز، ومن ثم تبدأ مجموعة من الاستجابات المرتبطة بإطلاق الدوبامين والشعور بالمكافأة.
هكذا يتحول السكر إلى إدمانٍ يشبه المخدرات؛ وقد أثبتت دراسة نُشرت في يوليو/تموز 2022 الدور الحاسم للأمعاء في استشعار الخصائص الكيميائية للمغذيات المبتلعة، ومن ثم توجيه القرارات لـ"الشهية".
السكر إدمان، والتخلص منه يتطلب 5 أسابيع كاملة، وهي مسألة لن يحتملها كثيرون. لكن الأكيد أنه حتى البدائل -مثل العسل- قد تكون غير متاحة للأطفال ما دون العامين، ومن هنا تبرز أهمية التخلص من تلك العادة في وقتٍ مبكر أو ألا نبدأها أصلاً.
سكر أقلّ في الطفولة.. عمرٌ أطول وشيخوخة أفضل
داخل معهد UCL، يسعى العلماء إلى اكتشاف الآليات البيولوجية التي تؤدي إلى الشيخوخة، وتحسين صحة الإنسان خلال رحلة تقدّمه في العمر، كذلك تحديد الجينات المرتبطة بعمرٍ أطول للإنسان.
وفي هذا السياق، أجروا دراسة -نُشرت في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2022- استطاعوا من خلالها إطالة عمر ذبابة الفاكهة بنسبة 48%، ولكن كيف؟ تلك كانت المفاجأة!
الدراسة التي شارك فيها باحثون من جامعة كاليفورنيا ولوس أنجلوس، وجدت أن تجارب الحياة المُبكرة يمكن أن تؤثر على نشاط جيناتنا في وقتٍ لاحق ومن ثم طول العمر وجودة الصحة.
يقول الدكتور نظيف آليك، الباحث الرئيسي في الدراسة: "الصحة في مرحلة الشيخوخة تعتمد جزئياً على ما مرّ به الشخص في شبابه وحتى ما مرّ به في الرحم، حيث تقوم الجينات بتشكيل ذاكرة تؤثر على الصحة بعد أكثر من نصف العمر؛ وذلك قياساً على ما حدث في حالة ذبابة الفاكهة التي عاشت حياةً أقصر حين تغذت على السكر، والعكس صحيح".
ويواصل الطبيب حديثه: "قد يكون نظامنا الغذائي السيئ في طفولتنا سبباً في مشاكل عملية التمثيل الغذائي في وقتٍ لاحق، حتى لو حدثت تغييرات غذائية كبيرة على مرّ السنين".
لهذا يجب أن تتوقفي فوراً عن منح أولادك السكر
سوف تحدثك عشرات المقالات عن أضرار السكريات، خاصة للأطفال؛ ونظرة سريعة على أحدث الدراسات بهذا الشأن، من شأنها أن تعطيك فكرة عن فداحة الثمن الذي يدفعه الصغار، من أجسامهم وأعمارهم ومستقبلهم، مقابل المحليات الصناعية.
إذا كان صغيرك يمرض كثيراً، فربما يكون ذلك مرتبطاً بكمية السكر التي يتناولها في يومه العادي.
فإحدى الدراسات التي صدرت في أغسطس/آب 2022، تربط بين الإفراط في تناول السكر وبين الإصابة بالالتهابات -خاصة التهاب الأمعاء، والالتهابات المزمنة المنخفضة الدرجة- فضلاً عن أمراض أخرى متنوعة، مثل: السمنة، وأمراض القلب، والأوعية الدموية، ومتلازمة التمثيل الغذائي، ومرض السكري من النوع الثاني، والصدفية، ومرض التصلب المتعدد، والتهاب المفاصل، وغيرها.
ونتيجة للمشاكل العديدة التي تتسبب فيها السكريات للأطفال، وفي إطار الجهود المبذولة للتخفيف من السمنة وإيجاد بدائل السكر، تبيّن -عبر دراسة حديثة- أن إيجاد بدائل منخفضة السعرات الحرارية في مراحل العمر الأولى يخفض من الشهية الكبيرة التي يحفزها السكر خلال مرحلة المراهقة.
كذلك، فإن إيجاد بدائل السكر لا يسبب زيادة في الوزن، كما أنه لا يؤثر على تنظيم الغلوكوز في الجسم. لكن الأثر الأكثر أهمية على الإطلاق هو انخفاض طويل الأجل في تذوق الطعم الحلو. لهذا بات تقليل السكريات للأطفال في السنوات الأولى ضرورةً قصوى، بحسب التوصيات العلمية.
إن كانت هذه الأسباب كلها غير كافية، فيكفي الإشارة إلى تلك الدراسة الحديثة التي خلصت إلى أن الاستهلاك الكلي للسكريات مرتبط بالإصابة بسرطان القولون، وبتكوّن الأورام في المراحل المتقدمة.
وهو ما أثبتته دراسة أخرى ربطت بين تناول المشروبات المحلاة بالسكر، خلال فترة المراهقة، وخطر الإصابة بسرطان القولون والمستقيم.
ما الحلّ إذاً؟
يبدأ الحل بمعرفة كمية السكريات المسموح للأطفال تناولها يومياً، بحسب التوصيات الطبية. فمثلاً، توصي جمعية القلب الأمريكية (AHA) بأن يحصل الأطفال من عمر 6 لـ18 عاماً أقلّ على من 25 غرام سكر في اليوم، أي 6 ملاعق صغيرة تقريباً.
في المقابل، لا يجب أن يحصل الأطفال ما دون العامين على السكريات إطلاقاً. وإذا كنتِ تشعرين بالحيرة، فيمكنك اتباع الإرشادات الموجودة على المنتجات.
وبحسب توصيات الخبراء، يمكن لمجموعة من الخطوات أن تساعدك على التحكم في كميات السكر الممنوحة لأطفالك، مثل:
المباعدة بين الوجبات الغذائية حتى يجوع الطفل، فيتقبل الأطعمة الصحية، مثل: الخضراوات، والفواكه، والحبوب الكاملة، والألبان قليلة الدسم.
خلق روتين واضح لتناول الطعام، لا تكون السكريات جزءاً منه، مع عدم طرح الحلوى كبديلٍ عن الطعام أبداً.
تناول الطعام وسط العائلة والتجمع حول المائدة، لتشجيع الطفل على تناول طعامه بشكلٍ طبيعي.
إبعاد الصغار عن الشاشات بأنواعها أثناء الطعام، كي يتنامى وعيهم بالوجبات التي يتناولونها.