فيلم «ليكوريش بيتزا» لا علاقة له بالطعام أو المطاعم، وإنما هو قصة متوازنة بين السرد والنوستالجيا دون طغيان أحدهما على الآخر، وإن كانت الأخيرة تطل برأسها بين الفينة والأخرى، ولا مجال لتجنبها، خصوصاً في فيلم عن تجارب طفولة الكاتب والمخرج الأميركي بول توماس أندرسون.
المقصود بـ«ليكوريش بيتزا» هو متاجر الموسيقى المتخصصة في بيع الأسطوانات السوداء التي كانت منتشرة في الولايات المتحدة من آخر الستينات وحتى الثمانينات. ورغم عدم ظهور متجر واحد في الفيلم؛ إلا أن أندرسون قال إن عنوان الفيلم لا علاقة له بموضوعه، وإنما اختاره لأن العنوان يعكس روح السبعينات التي عاشها المخرج، والتي يحاول بثها في الفيلم.
موضوع السبعينات ليس جديداً على أندرسون، وهذه ثالث مرة نراه في أفلامه، فقد سبق أن طرحه في فيلم Boogie Nights عام 1997 وInherent Vice عام 2014.
لا يتقيّد بالقوانين
«ليكوريش بيتزا» الذي فاز بجائزة بافتا البريطانية لأفضل نص أصلي، ترشح في خانة أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل نص أصلي في أوسكار «الصفعة»، مقتبس جزئياً من سيرة منتج هوليوود، غاري غويتسمان، وأندرسون يتلاعب بنبرة الفيلم وحقائقه، فتارة نرى سمات أفلام بلوغ الشباب ودخولهم المراهقة، وتارة أخرى نرى سمات الأفلام الرومانسية الكوميدية، وفي الحالتين أندرسون لا يتقيّد بالقوانين التقليدية للصنفين المذكورين، ويتجاوز ذلك إلى مناطق جديدة.
لو أطلق أندرسون على فيلمه اسم «عندما التقى غاري بألانا» لربما ضرب وتر نوستالجيا قوياً لدى الجمهور الذي سيتذكر فيلم روب راينر الكلاسيكي «عندما التقى هاري بسالي» عام 1989، وهو كلاسيكي لأنه تجاوز الحدود المرسومة للرومانسية الكوميدية في الثمانينات، وكان سبباً رئيساً لظهور موجة الرومانسية الكوميدية في التسعينات.
لكن الرجل اختار اسماً مختلفاً وغريباً لفيلمه، والسبب - بالإضافة إلى الذي ذكرناه - أنه بالاسم الغريب والجديد كلياً يعطي نوعاً من الأصالة لفيلمه. يقابل غاري (كوبر هوفمان ابن النجم الراحل فيليب سيمور هوفمان) ألانا (ألانا هيم) في الصالة الرياضية لمدرسته.
يريد غاري التقاط صورة لنفسه، وألانا هناك تساعد المصور لالتقاط الصورة. إبلاغ ألانا غاري أنها أكبر منه بعقد كامل لا يمنعه من مغازلتها وطلب مواعدتها. إتقانه في اختيار كلمات الغزل وأسلوب رده على رفضها مواعدته يثيران إعجابها.
بالنسبة لغاري، هذا الحب من أول نظرة، فقد قرر أن ألانا هي الفتاة التي يريد الزواج منها. بالنسبة لألانا فإن الموضوع معقد ومحير، فهي منجذبة له بعض الشيء، لكنها عاجزة عن تصديق أن عمره 15 عاماً، وهو سن غير قانونية لتطور العلاقة الرومانسية بينهما في نظر المجتمع.
فيصبحان صديقين، لكن ألانا تغار عندما ترى فتيات مراهقات في سن غاري ينجذبن إليه، وهو يغار عندما يراها تخرج مع أشخاص متنفذين في هوليوود. رغم كل ذلك يقرران تأسيس عمل تجاري معاً ويجادلان بعضهما بعضاً كما يفعل كل الأصدقاء.
بينما تشكل العلاقة الرومانسية بين المراهق الطموح والمرأة المحتارة في الفيلم العمود الفقري للقصة، إلا أنها ليست الشيء الوحيد الذي تدور حوله أحداث القصة. في «ليكوريش بيتزا» نرى أندرسون يتسكع في ماضيه، وكأنه فتح للمشاهد نافذة داخل عقله نرى منها أحداث القصة.
تفاصيل الذكريات
نشأ أندرسون في وادي سان فيرناندو بكاليفورنيا في السبعينات والثمانينات، وهذا الفيلم تدور أحداثه بالضبط في ذلك المكان في الفترة الزمنية نفسها. وهذا لا يسمح له فقط بعيش تلك الذكريات، ولكن بإعادة صنعها في الفيلم بتفاصيل دقيقة وممتازة.
جانب بلوغ سن الرشد في الفيلم متعلق بالشخصيتين، لكن شخصية غاري مكتملة في بداية الفيلم أكثر من ألانا، وكنتيجة فإن هذا يجعل الفيلم قصتها وهي الفتاة التي تفتحت متأخرة وتعيش هذه الرحلة من حياتها.
لمحة سريعة على طاقم ممثلي الفيلم تكشف الأسماء الشهيرة التي اختارها أندرسون لشخصياته، فذكرنا البطل هوفمان، وهناك سبيلبيرغ وديكابريو وتيم كونواي الابن، وكلهم أقارب لمشاهير في هوليوود. ساشا سبيلبيرغ ابنة صانع الأفلام الشهير ستيفن سبيلبيرغ، وكونواي الابن يحمل بالضبط اسم والده الممثل الراحل، وجورج ديكابريو والد النجم ليوناردو ديكابريو. وهذا يعكس علاقات أندرسون العميقة في مجتمع هوليوود.
وبالطبع هناك أسماء كبيرة تؤدي أدواراً صغيرة، مثل شون بين في دور نجم أسطورة خيالي يسمى جاك هولدن (مستلهم من نجم هوليوود في الخمسينات ويليام هولدن)، وبرادلي كوبر في دور شخصية خيالية مقتبسة من حقيقية هي جون بيترز، وهو مصفف شعر تحول إلى منتج أفلام.
بطلا الفيلم جديدان في هوليوود، غاري مولود في عائلة فنية واختار الانخراط في مهنة والده، وألانا تعرف أندرسون منذ خمسة أعوام ولها شقيقتان تظهران في دور شقيقتين في أحد مشاهد هذا الفيلم. هذا أول فيلم لألانا، وهي هنا تثبت أنها موهبة طبيعية، ورغم فارق السن بينهما (10 أعوام) إلّا أنهما يتمتعان بانسجام شديد جداً طوال 134 دقيقة.
بين الواقعية والسريالية
لا يشبه «ليكوريش بيتزا» أفلام بول توماس أندرسون الأخرى، فهنا وكأن أندرسون يسرد قصة عن مواقف متعددة لشخصيتين، ولا شيء يؤدي بالضرورة إلى شيء آخر.
في التسعينات كانت أفلام أندرسون تعكس واقعية، وهي عن عائلات محطمة، وفي الألفية الجديدة ذهب باتجاه السريالية. وفي عام 2007 بلغ القمة بتحفته There Will Be Blood، ثم عاد إلى بداياته في فيلم Inherent Vice، وهو فيلم غير مفهوم أبداً، لأنه يسرد من وجهة نظر محقق يهلوس من شدة تعاطيه المخدرات، وصولاً إلى فيلم Phantom Thread الذي كتبنا عنه هنا منذ أربعة أعوام يحكي قصة رجل يمتلك دار تصميم أزياء مع شقيقته وتتعرض علاقتهما لأزمة عند وقوعه في حب نادلة.
• 134 دقيقة، مدة الفيلم المقتبس جزئياً من سيرة منتج هوليوود، غاري غويتسمان.
• في العمل نرى أندرسون يتسكع في ماضيه، وكأنه فتح للمشاهد نافذة داخل عقله نرى منها أحداث القصة.
• يتلاعب أندرسون بنبرة الفيلم وحقائقه، فتارة نرى سمات أفلام بلوغ الشباب ودخولهم المراهقة، وأخرى نرى سمات الأفلام الرومانسية الكوميدية.