الأنباط -
كان يوم أمس عرساً تطرفياً بامتياز، تجلت فيه حقيقة التوجه المسيطر على مستويات صنع القرار حينما تم مناقشة مقترح تعديل المادة )84) من الدستور التي تمنح حصانةً إجرائيةً للتشريعات الناظمة للحياة السياسية وتنظيم السلطة القضائية باشتراط ضرورة موافقة ثلثي أعضاء كل من المجلسين الحاضرين عوضاً عن أكثرية الأعضاء الحاضرين المعمول بها في إقرار سائر القوانين، حيث وجد المرتابون في المرأة وحقوقها ممن خالفوا بعنف إضافة كلمة «الأردنيات» لعنوان الفصل الثاني من الدستور وما ورد من عبارات تتعلق بتمكينها وحمايتها من التمييز في المادة السادسة، وكذلك من أيد هذه التعديلات حياءً أو رياء؛ فرصةً لإعلان توبتهم من ذنب تمرير الكلمات والعبارات الخاصة «بإنصاف المرأة»، فاجتمعوا وأجمعوا لأول مرة -دون مخالفة أو امتناع- على الموافقة على إضافة قانوني الأحوال الشخصية والجنسية إلى حزمة القوانين التي يشترط لتعديلها موافقة الثلثين.
ما يثير الغثيان في هذا التعديل ليس نتائجه الإجرائية وشذوذه عمّا ألفته النظم الدستورية المنسجمة مع حقوق الإنسان والديمقراطية الحقة، وإنما التبريرات التي سيقت لتبنيه. إذ بدى بوضوح أننا بصدد مقايضة على ما تم إضافته على استحياء من كلمات وعبارات على الفصل الثاني من الدستور تتعلق بالمرأة، وكأن القوم وجدوا في المادة (84) نُسُكاً يكفّرون من خلاله عن «ذنب» ما سبق إقراره في المادة السادسة، الأمر الذي صرح به عدد من المتداخلين الذين أكدوا أن «إدراج قانون الأحوال الشخصية هو مقابل ما أدرِج في المادة السادسة وأنه يرسل رسالة تُطَمِئن الشارع المرتاب بما تم إضافته من عبارات تعزز من حقوق المرأة وتمكينها»، ليجد هذا الطرح إجماعاً من الحاضرين كافةً بنسائهم ورجالهم متطرفهم ومعتدلهم مسلمهم ومسيحيهم، وكأننا في سباق محموم يحاول فيه الجميع أن يصل قبل الآخر إلى خط النهاية الذي هو ذاته خط البداية إذ المساحة بينهما صفر.
جدلية المؤثر والمتغير بين الظاهرة الاجتماعية والقانون هي أزلية اختلفت حولها الآراء والنظريات في علم دراسات الاجتماع القانوني (Socio-legal studies). ففي الوقت الذي يرى فيه فريق أن القانون أداة يمكن من خلالها إحداث تغيير على المستوى المفاهيمي والقيمي في المجتمع، يرى آخرون أنه –أي القانون- ما هو إلا مرآة تعكس الظواهر والممارسات المجتمعية التي استقرت في وعي الأفراد وترجموها مسلكيات وممارسات على الأرض.
مناقشات يوم أمس قدمت برهاناً عملياً على أن المسألة برمتها تعتمد في أساسها على مدى تجذر مبدأ سيادة القانون واحترامه بين أفراد المجتمع وفي ثقافتهم، فالمجتمعات التي تؤمن بسيادة القانون قولاً وفعلاً سوف ترفعه دائماً وتلقائياً إلى مصاف أدوات التغيير والتأثير ليكون على الدوام وسيلتها لترسيخ كل ما من شأنه الارتقاء بالمجتمع وأفراده وكفالة تمتعهم بحقوقهم وحرياتهم دون تمييز أو إقصاء في بيئة حاضنة للتنوع والاختلاف واجتثاث ما بات خارج سياق الزمن من عادات وأعراف وممارسات.
أما المجتمعات التي تُعلي العادات والتقاليد والثقافة السائدة بعجرها وبجرها وما يعتورها من تشوهات،فإن التشريع بدستوره ومواثيقه وقوانينه بالنسبة لها لا يعدو كونه قطعة قماش تُحاك لتستر عورة الواقع وتضمن ديمومته.
عملية الإصلاح التي لا يسبقها توافق على مفهوم الإصلاح ومرجعياته ومؤداه ونتائجه والتعاطي معه على أنه انتقال من حالة مفاهيمية وأخلاقية اعتورها شيء من الجمود والتأخر الحضاري والسياسي، إلى حالة أكثر انفتاحاً وتحقيقاً لمبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ؛ هي بمثابة عملية إعادة إنتاج لمنظومة القيم والثقافة المجتمعية السائدة لكن برتوش ومساحيق سرعان ما يزيلها لهيب التطرف أو تتلفها برودة الجمود؛ لتظهر ملامحها الأصلية وتعود سيرتها الأولى.
ما حدث يوم أمس يؤكد بشكل عملي ما قلناه منذ يومين فقط عن زيف الاختلاف بين المعارضين والمؤيدين للتعديلات الدستورية على الفصل الثاني في مقال بعنوان: «التعديلات الدستورية، مزاعم الاختلاف وحقيقة التوافق والائتلاف. https://tinyurl.com/y6awgqvd »، وأن كلا الفريقين ينسج على ذات المنوال ويغني عين الموال وإن اختلفت المقامات والنغمات والآلات، فالجميع شمّر وكبّر وصلى الغائب على حقوق المرأة في مشهد سريالي شيع فيه الأموات ضحيتهم، ليتجسد قول العظيم ابن خلدون مرةً أخرى وليست أخيرة: «اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء بل أن الأحياء أموات».