الحسن بن طلال
ثمّة حاجّة ملحّة اليوم إلى حوار جمعّي شامل، بوصّفه ديدّن التقدم والإصلاح في خدّمة الصالح العام، الذي يتمّ تعريفه من خلال خطاب اجتماعي يعبّر عن هموم واحتياجات الناس جميعاً. فالحوار المؤسسّي الجادّ يتأتّى عبر التوجه للناس، ومعايشّة أوضاعهم، والعمل معهم، ومعرفة احتياجاتهم. فالملهمّون الحقيقيون هم من يلهمّون الغير، وصولاً إلى تحقيق الإنجاز الفعليّ.
إن تحسين الأوضاع المعيشية للإنسان تعدّ ضرورة وازّنة لتحقيق التنمية المستدامة، مثلما يشكل الاستثمار الأفضل للموارد البشرّية قيمة مضافة، باعتبار أن رأس المال البشرّي أهم ما يملكه الأردن، مع ضرورة التركيز على فئات الشباب والمرأة في المجتمع، وذلك عبر إيجاد صيغة تعاونية وثيقة الصلة بين القطاعين العام والخاص. وهنا أؤكد أهمية تمكين الشباب من أجل الحاضر والمستقبل، والحديث هنا لا يقتصّر على الجانب التربوى واعتبارات السوق فقط، وإنما يشمل أهمية فهم المواهب والرقي إلى مستوى الثقة بأن القاعدة العريضة للهرم الوظيفى لا تنتهي دائماً إلى النخب الوظيفية كما كانت تسمى، بل لا تنتهي بالوظيفة كمقصد بحد ذاته، إلا أنها تنتهي بالمواطنة الفاعلة.
فمن خلال تتبع تاريخ الدولة الأردنية لم تمر فترة من ذاكرتي إلا وكان الأردن يواجه ضائقة اقتصادية؛ والمشهد لا يُوفِّق في ذهني بين الأرقام الديموغرافية الكبيرة من جهة والضائقة المالية من جهة أخرى. فالأردن لا ينتج ثروات كافية لاستدامة النمط الاقتصادي الحالي، إذا أنه لربما أن أكثر من 40% من الأردنيين العاملين يعتمدون على الرواتب الحكومية. وفي الوقت الذي نطمح فيه إلى التوقف عن الاستدانة والاعتماد على الغير، نجد أن الواقع يذهب إلى خلاف ذلك.
ونحن نستذكر هذه الأيام مرور 51 عاما على ذكرى حرب حزيران لعام 1967، وما خلفته من ويلات ما زالت تلقي بظلالها على الاقليم بشكل عام وعلى الدولة الأردنية بشكل خاص في كافة المجالات حتى يومنا هذا. وتستمر الحروب والنزاعات في المنطقة في التأثير سلبا على الأردن الذي أضحى اليوم مستضيفا لأعداد تفوق قدرته الاحتمالية، فقد تجاوز عدد سكانه 10 ملايين نسمة وذلك بزيادة تتجاوز 87% منذ اوائل التسيعينيات.
وبهذا يكون التحدي الأبرز في المجال الأقتصادي هو في كيفية التوفيق بين الأرقام الكبيرة الرسمية حول عدد السكان القاطنين في الأردن من مواطنين ولاجئين، حيث بلغ عدد اللاجئين السوريين في الأردن وحتى بداية شهر آذار 2018 حوالي 1,3 مليون إنسان، يضاف إليهم اللاجئين من جنسيات مختلفة بأرقام مرتفعة تشكل تحديا كبيرا على الاقتصاد الأردني والمديونية العامة الدولة. وقد ساهم ذلك في التأثير سلبا على قدرة الدولة الأردنية في تحسين مستوى الخدمة العامة وإدارة المرافق الوطنية الأساسية في الدولة.
وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى تحسين القدرات الوطنية على جذب الاستثمار حيث شهدنا في الآونة الأخيرة نفور رؤوس الأموال لأسباب تُعزى لبعض السياسات والتشريعات الوطنية التي تعبر عن صعوبة في استشراف المستقبل.
وأنا أرى أن مجتمع الكفاءة يعدّ أملنا الوحيد لاحتلال المكانة الطبيعية بين الأمم، وهنا لا أتحدث عن المكانه التنافسية، وإنما عن الصدق مع الذات، فإذا كانت منطلقاتنا أخلاقية وسليمة فلماذا لا تكون النهايات أيضاً سليمة في التركيز على التكوين السليم للشباب والتمكين والتفويض القانوني لهم بغية إعداد كوادر وقادة وطنية مستقبلية قادرة على القيام بالأدوار المنتظرة والفاعلة في الحياة العامة. ويتم ذلك عبر تطوير اقتصاد معرفي ذو وزن يقوم على أساس الأهتمام ورعاية التعليم في القطاع العام ورفع سوية مؤسسات التعليم العالي إلى مصاف الجامعات والمعاهد المتقدمة.
ولا يمكن الحديث عن تنمية المجتمع وتجاوز العقبات الاقتصادية دون الإشارة إلى أهمية حوار السياسات بين أطراف المعادلة المجتمعيّة؛ على أساس الموازنة بين حق الإنسان في الحياة الكريمة واستيفاء متطلبات معيشته اليومية وواجباته تجاه الدولة على أساس المواطنة الصالحة. فقد أثبتت الأسابيع الماضية حاجتنا الماسة للبحث عن وسيلة نتخاطب بها عندما نواجه قضايانا الكبرى في المستقبل، السياسي والإقتصادي والاجتماعي والإنساني منها. وهذا يتطلب إحكام منهجية حوار السياسات، وجعلها طريقة مُثلى نلجأ إليها كلما اختلفت بيننا الآراء وتشعبت بنا الأفكار. فلا بد أن نتناقش بمنتهى العقلانية على أساس من النقد العقلاني وتعظيم الصالح العام.
ويتطلب حوار السياسات بناء مراكز معلومات دقيقة ومُتفق عليها تصبح مرجعيتنا، فالتحديات الحالية التي تواجهنا لن تُحسم إلا إذا أخضعنا بدائل السياسات المتعلقة بها للبحث والتحليل والدراسة المستقلة المحايدة، وتم عرض نتائجها على الفرقاء المختلفين، وأصبحت هي المرجع الموحد بينهم لنقاش وجهات نظرهم.
إن ثقافة حوار السياسات ودعم السياسة العامة من حيث إسلوبها وإطارها ووسائلها يجب أن تكون النهج السليم للوصول إلى التوافق المجتمعي دون تحكيم العواطف على لغة العقل، ودون إهمال للجوانب الإنسانية التي يعكس التمسك بها مستوىً رفيعًا من التلاحم والتكافل المجتمعي.
فعلى الصعيد الداخلي تبرز الحاجة إلى مراجعة العقد الاجتماعي بشكل يعزز التمكين القانوني للفرد، ويحمي كرامته الإنسانية؛ إلى جانب بناء الشراكة الفاعلة بين القطاع العام والخاص والتيار المدني الحقيقي فيها الذي يُعظم ويخدم الصالح العام. فالأردن اليوم يواجهُ أوضاعاً أقل ما يقال فيها أنها صعبة إلا أنني على ثقة تامة أنه قادر على تخطيها وذلك بقدرته ووعي مواطنيه، مثلما استطاع تجاوز الأزمات السابقة وتخطيِها.
أما على الصعيد الإقليمي فالعلاقة مع الدول المُحبة يجب أن تكون على أساس الأحترام المتبادل وتعظيم المشتركات الخلاقة التي أصبح المواطن يدرك من خلالها أنه لا توجد دولة في الإقليم تستطيع أن تشرف على برامجها المائية والطاقة والبيئة الأنسانية منفردة.
وختاما أقول نعم لحاضر الأردن، ونعم لماضيه المشرِّف الذي يعتبر توطئة للمستقبل.