ثمّة استراتيجية إيرانية بدأت تلوح في الأفق من خلال مساعيها في إعادة بعث داعش من جديد في عدد من المناطق السورية. ضمن سياق التطورات المحمومة بين أطراف المواجهة _موسكو وواشنطن وطهران_ مما أدّى لظهور نوايا جديدة ضد طهران نتيجة لتغيّر قواعد الصراع والتنافس، وتعاظم الخلافات بينهم، فحلفاء الأمس “طهران، وموسكو” يختلفون اليوم وتتباعد وجهات نظرهم لتسود فيما بينهم حالة من عدم الثقة بين الأطراف المتصارعة على امتداد الجغرافيا السورية. فلم يعد تحجيم قدرات داعش يصبّ في المصالح الإيرانية، لأن تغوّل داعش في سوريا يبرّر وجودها في سوريا، بل يُستفاد منه في الانتقام من الروس ومن النفوذ الغربي أيضًا، وكذلك من الأطراف الإقليمية الأخرى المنسجمة مع هذا المشروع بشكل عام.
فالاستراتيجية الإيرانية الحالية تتطلّب إعادة بعث داعش في مناطق محدّدة تقع تحت السيطرة الأمريكية والروسية، لأن بعثها من جديد سيؤدّي إلى انشغال هذه الدول عن مجابهة إيران من ناحية، ويدفع بالدول العربية المنخرطة في التحالف الأميركي لمواجهة إيران للتفكير مليًا في إرسال قوّاتها إلى سوريا من ناحية أخرى، فلا غرابة أن توفّر إيران لتنظيم داعش سهولة الحركة والانتقال إلى مدينة السويداء بخاصّة، وإلى جبهة جنوب سوريا بعامّة. وأن يوسّع التنظيم عملياته العسكرية في كافة الاتجاهات شمالًا وجنوبًا شرقًا وغربًا، بالتزامن مع سعي طهران في العمل على تراجع ميليشياتها، وانحسارها باتجاه نقاط ارتكاز محددة، مما قد يسهم في خلط الأوراق وصدم كلٍّ من موسكو وواشنطن وتل أبيب وقوى عربية أخرى جراء الاستفاقة المفاجئة للتنظيم.
لذا فإن استعادة تنظيم “داعش” لنشاطه في مناطق محددة من سوريا، بات يمُثّل أولوية عند إيران، وبالتالي ستعمل على تسهيل انتقاله إلى مناطق التماس والحيوية بغية توجيه الضربات للدول التي تطالب بانسحاب إيران وميليشياتها من سوريا.
فلقد أعطت القيادات في طهران الضوء الأخضر لمثل هكذا سيناريو، وهذا ما يتّضح من خلال تركيز ماكينتها الإعلامية على استعدادها للردّ القاسي وغير المتوقّع، والذي سوف يطال كل من يحاول النيل من التضحيات التي قدمتها طهران على امتداد سنوات الأزمة السورية، وفي مقدمتها الحرب على داعش، وافتراض عودتها في حال تراخي القبضة الإيرانية، وهي رسالة سياسية إيرانية باتت موجهة للجميع بمن فيهم روسيا.
تواجه إيران مأزقها السياسي والاقتصادي والاستراتيجي غير المسبوق نتيجة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وتصاعد وتيرة الصراع المقترن بالاستهداف الإسرائيلي، والذي بات مشهداً معتادًا وشبه يومي ضدّ ميليشياتها في سوريا بغية طردهم منها، فضلاً عن مطالبة موسكو على لسان وزير خارجيتها بضرورة خروج كل القوات والمليشيات من سوريا، فلن نفاجئ إذا ما شهدنا عودةً نوعيةً لداعش في الأيام القليلة القادمة، وفتح المجال أمام مزيد من المرتزقة والمليشيات للعبور إلى سوريا بدعم وتوجيه من إيران، ورفع متعمد لليد الإيرانية الدائمة على حركة التنظيم وتنقلاته في البادية السورية.
فالتكتيك الإيراني أخذ بالتحرك السريع بعد أن أعطت طهران الاتحاد الأوروبي الفرصة الأخيرة لإنقاذ الاتفاق النووي والتي انتهت بالأمس. فالتطورات السريعة _إعلامياً وعسكرياً وسياسياً_ توضّح بجلاء خطوات إيران القادمة في الردّ على المنافسين، فالإعلام الإيراني اليوم يعيش حالة إحماء من أجل الانتقام. وهذا الإعلام هو المصدر شبه الوحيد الذي نستطيع الاتكاء عليه في تفسير سياسات النظام الإيراني، ويجعلنا نطرح أسئلة دقيقة عن كيفيّة التواطؤ مع تنظيم الدولة الإرهابي، وكيف يتقاسم المسؤولية مع إيران وميليشياتها، فتوظيفه من قبل إيران يعتبر بمثابة الورقة الرابحة للضغط على مختلف القوى، وهو يماثل في ظروفه ودلالاته تسليم الإيرانيين مدينة تدمر لتنظيم “داعش” في يناير عام 2016م، للانتقام من روسيا حينذاك، ومنعها من إنشاء قاعدة عسكرية هناك. فقد كانت طهران تريد توجيه رسالة واضحة إلى بوتين مفادها: أننا قادرون على تدمير مخططاتكم وأهدافكم إذا لم تتوافق مع مصالحنا في سوريا بله وإدخالكم في حرب استنزاف طويلة، فالأرض بيدنا، وداعش من أهم أدواتنا التي نستطيع من خلالها ضرب الخصوم والمنافسين.
فلا شك أن حرب إيران مع منافسيها في سوريا باتت حرب وجود، على الرغم مما يبدو بأنّ روسيا وإيران في تحالف ” مؤقت ” داخل الأراضي السورية، فاليوم بدأ الصراع يطفو على السطح، فالكلّ يريد أن يكون صاحب القرار في سوريا، وإيران لن تقف موقف المتفرّج أمام حالة الاصطفاف الدولية والإقليمية غير المسبوقة الساعية لطردها من سوريا، وضمّ روسيا إلى هذا المحور أيضا وبشكل علنيّ.
فطهران تدرك أن دعوة الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته حيث تحدثا: عن ضرورة خروج كل القوات الأجنبية من سوريا، بأن المقصود بذلك هو الميليشيات الإيرانية أولًا، وأنّ دورها الحقيقي في أي معركة قادمة قد انتهى، وأنّ المتغيّر الإسرائيلي بات يلتقي مع الروسي، وإعلان موسكو التوافق مع إسرائيل لحماية حدودها وأمنها، وحيادها الضمني من القصف الجوي لقواعد إيران وميليشيا “حزب الله”، ومنح “إسرائيل” الغطاء لتوجيه الضربات تلو الضربات لاستهداف الوجود العسكري الإيراني في سوريا بمختلف مستوياته، وتوفير معلومات استخبارية مهمة للإسرائيليين، وهو ما صرّحت به بعض وسائل الإعلام الإيرانية المحسوبة على الحرس الثوري كلّ ذلك يؤكد تواطؤهم ضدّ إيران.
لذلك فإن إعادة بعث داعش من جديد في هذا التوقيت بالذات سيسهم في إحراج ” بوتين ” الذي حاول تلميع صورة روسيا أمام العالم كقوّة عظمى لديها رسالة سامية على المستوى الدولي في محاربة الإرهاب، وفي ظلّ الاستحقاقات الداخلية في روسيا و على رأسها بطولة كأس العالم لكرة القدم ، والتي سيتم تنظيمها في روسيا الشهر القادم، وقياس مدى اختبار قدراتها الأمنية التي ستكون على المحكّ؛ خاصّة بعد تدهور علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بعامّة، ومع بريطانيا بخاصة على خلفيّة محاولة اغتيال عميل المخابرات الروسي وابنته، هذا فضلاً عن الظروف الدولية المعاكسة لروسيا ومصالحها، يتزامن مع اقتراب الحليف الكوري الشمالي من إجراء مصالحة تاريخية مع واشنطن، وماله من تبعاتٍ على روسيا، ومصالحها الإقليمية والدولية ، هذا فضلا عن ضرورة عقد صفقة مع الأميركيين بخصوص الملفات المشتركة والمعقدة، وفي مقدمتها الأزمة السورية، وخشية روسيا من استنزاف قدراتها على غرار دخولها إلى أفغانستان. كلّ هذه الاحتمالات تلقي بظلالها على طبيعة السياسات التي يتحتم على روسيا اتخاذها تجاه إيران في الأيام القليلة القادمة.