كعادته يبرهن الأردن، خصوصاً في وقت الأزمات، بقدرته العالية على "التكيّف" السياسي والدبلوماسي، والتحرك بمرونة وحيوية توّفر له حماية مصالحه الوطنية العليا، دون أن يأبه بما يراه البعض ضغوطاً عليه، فيما هي لا تتجاوز مناورات ومحاولات لا تزيده إلا تماسكاً شعبياً وتمسّكًاً سياسياً بخياراته.
ولا يقف الأردن الذي لا تخنقُه عزلة ولا تحدد حركته مؤثرات مصطنعة عند "حركشات موجّهة" تبرزها تقارير صحفية، لا يميزها سوى أنها من إعلام يُسيّس كل ما يكتب، وينسب كل ما ينشر لمصادر لا مرجعية لها، بعدما فقد مصداقيته وضاع تأثيره، ولم يعد أمامه سوى الكتابة بدافع التوجيه.
والأردن الذي تُحرِّك دبلوماسيته الحكمةُ، يدير دفته بتوازن ويحتكم في قراراته إلى مرجعية المصلحة الوطنية وقد صمد أمام ما هو أقسى وأمرّ في سنوات خلت، في درس علّه يتعظ منه من يعتقد خطأً أن "عصى" الأردن "لينةٌ" ومواقفه قابلة للطي.
هنا، نقصد ونتقصد تلك الحملة والمحاولات الإسرائيلية الحثيثة في التضييق على الأردن، وبالأخص منذ موقفه الثابت والمتوافق مع القانون الدولي والأطر والأعراف الدبلوماسية العالمية وقبل ذلك مع حقوق شعبه ومصالحه العليا في التعامل مع تبعات حادثة السفارة الإسرائيلية، في وقت يأخذ فيه الإعلام العبري على عاتقه ضخ الاتهامات للأردن بأنه يدير حملة تعريض تجاه اسرائيل في أروقة صناعة القرار الأمريكي، وكأننا أمام "مرآة معكوسة" و "صورة مقلوبة" و"حقائق يجري تزييفها" مع أنها واضحة بتجلٍ للجميع.
على اسرائيل اليوم أن تدرك أن "الرياح لا تأتي كما تشتهي السفن"، وأن الجار "اللين" لن يكون كذلك إذ هي تمادت وظنّت أنها تستطيع حمل السلم بالعرض دون الالتفات لأي معيار أخلاقي ووازع يردعها عن ارتكاب الأخطاء بحق الغير دون "جردة حساب".
العجز وسياسة المناورات وقلب الحقائق تمارسها إسرائيل باتهامها الأردن بعرقلة اعادة المياه إلى مجاريها، بل تذهب لأبعد من ذلك وهي تتيح لإعلامها المحكوم بـ "الرقابة" بتوجيه أصابع الاتهام للأردن بإعاقة تطبيق معاهدة السلام من خلال منع طاقم السفارة الإسرائيلية من العودة إلى عمّان، متناسية تجاهل حكومة نتنياهو ورميها بعرض الحائط لكل المواثيق الدولية، التي تحكم العلاقات الدبلوماسية بين الدول حيث سمحت لطاقم السفارة بمغادرة المملكة شريطة تطبيق اللوائح الدولية.
الموقف الإسرائيلي في حادثة السفارة ووفق المعايير الدولية "يتيم" اليوم، فلا أحد يستطيع من الأطراف العالمية المعنية بتهدئة الأجواء في الشرق الأوسط الدفاع عنه، بل إن استهتار اسرائيل وتمنعها عن محاكمة القاتل تجعل الجميع في موضع "الخجل" من هذه السلوكات التي لخّصها مصدر دبلوماسي أردني بوصفها ب"المخزية".
في المقابل، فالاردن اليوم لا يخالف لا أعرافاً ولا تقاليد دبلوماسية ولا يغامر بسمعته عالمياً، ولطالما تحمّل الأردن الرسمي سماع الكلام الناقد والجارح – داخلياً على الصعيد الشعبي -في سبيل الحفاظ على التقاليد والاعراف الدبلوماسية وانصياعه للروزنامة العالمية.
السلطات الرسمية لطالما حمت كل السفارات وأعلنها مسؤولون أكثر من مرّة أن ما تقوم به المملكة يعبّر عن احترامها لذاتها وللاتفاقات حين تحمي أي سفارة – لا السفارة الإسرائيلية فقط - من أي هجوم أو اعتداء وهي تصون بذلك صورتها امام المجتمع الدولي لا السفارة أو السفير الذي تطالب الجماهير ليلاً نهاراً بإغلاقها وطرده.
الاردن يطالب بأدنى الحقوق التي يجب أن تُصان ضمن مفاهيم المواثيق الدولية وهو اليوم يريد أن تحميه هذه القوانين وألا تَستخدم أيُّ دولة نفوذها للضغط عليه في سبيل ان تغرّد دولة منفردةً فوق القانون الدولي، وليس مقبولاً أن تنغمس أي دولة بـ"الرعونة" مخالفةً كل ما هو محم عالمياً دون محاسبة.
فالموضوع ليس بالسهولة التي يعتقدها صناع القرار الاسرائيلي بخاصة اليميني منهم والذي "يتصابى" لغايات انتخابية في سبيل كسب الشعبيات وتحسين أرقام استطلاعات الرأي على حساب دولة يعوا تماماً مدى أهميتها في المنطقة ولعملية السلام التي يُتوقع أن يكون الطرف الآخر جزءاً منها.
اسرائيل اليوم لم تجنِ إلا مزيداً من "العزلة" ومستويات القرار الأمني تُدرك تماماً المخرجات التي افضت اليها سياسة نتنياهو اليمينية، وكتب العديد من المحللين حول خسارة الأردن كصوت عاقل وسط هذا المحيط المنفلت من كل ضوابط.
تلك المستويات تشعر بحجم التهور الذي قاد الى توتر العلاقة مع الاردن وأدت الى هذا المستوى من التأزيم بسبب الرهان على كسب الشعبية في الداخل وسط رعونة جعلت من الحكومة عبئاً على أمنهم.
غير مقبول أن تتصرف اسرائيل كطرف متمرد على القوانين والاتفاقيات والمعاهدات التي تربط دول العالم، ولم يعد ممكناً السكوت عن تجاوزاتها، وبات لزاماً عليها أن تتخلص من عقلية "القلعة" فليس "حلال عليها الدوح" بينما هو "محرم على غيرها" فلا منطق يستقيم إلا منطق الاحترام للدول التي تحترم نفسها وتنساق وتخضع للنصوص الدولية.
الدلالة الاعمق تكمن في إبراق اسرائيل برسائلها عبر وكالة عالمية بينما وفد رسمي أردني عالي المستوى في واشنطن وكأنها توحي بوجود ترتيبات جرت هناك لـ "لملمة الطابق" كما تريد اسرائيل، ليرد الاردن بنفس اسلوب "المصدر" وبذات الوكالة وبعد ساعات على ما اورده المصدر العبري.
في المقابل وبوضوح، يمكن في السياق السياسي والدبلوماسي قراءة مرور المسؤول الأردني، في تصريحات لذات الوكالة، حول استبدال السفيرة بقليل من الاهمية وكثير من الهامشية وتعامل معه "شيئا عرضا" كون هذا الامر بات رغبة متجذرة محسومة غير قابل التنازل بسببها عن الموقف الكلي فهذا أمر يمثل جزءاً من صورة أشمل يراها الاردن بشكل جلي وواضح.
كان واضحا الاردن منذ البداية "اطلقنا سراح القاتل لان الشرعية الدولية تتطلب ذلك"، ويُجدد المصدر الأردني اليوم بالقول "موقفنا لا يزال صلباً ومصرون على محاكمته وبما يضمن تحقق العدالة.. هو يتمتع بالحصانة وليس الافلات من العقاب.. لن تفتح السفارة مجدداً لحين تلبية شروطنا التي تمثل الموقف الذي اتخذناه منذ البداية"، وهو بذلك يحسم الموقف مجدداً من "بالونات الاختبار" التي تطلقها إسرائيل بين الحين والآخر آملة أن تنخفض سقف الشروط الأردنية.
وبعد أن وصلت الرسالة الدبلوماسية الأردنية، عاد الاسرائيليون للمناورة مجدداً بالضغط من بوابة اقتصادية عبر ناقل البحرين بالتلميح بتعطيل الشراكة في تنفيذه ليردّ مسؤول اردني على سؤال صحفي "هم يضغطون بأكبر من ذلك .. وإذا أصروا نمضي بالمشروع وحدنا".
اذاً لا مساومة على أيّ ملف مقابل الملف الاردني البحت -مسألة السفارة -وهو ما يؤكد على ثبات الموقف الاردني الذي سبق وأن نفى ربط قضية البوابات الالكترونية في المسجد الأقصى وحلحلة أزمتها بحادثة السفارة، حيث "لا مساومة على دماء الاردنيين" هذه الرسالة الأردنية منذ أول سطر في هذا الكتاب حتى آخره.
الرسالة التي يجب أن يقرأها الاسرائيليون بعينين مفتوحتين وبعقل واع هي أن لا تبديل بالموقف الأردني الرسمي ولا تراجع عنه، ومن غير المقبول التذاكي وحساباتكم الداخلية ليست أهم من حسابات الاردن الداخلية وليست أهمّ من حياة الاردنيين الذين قضوا في الحادثة، وهو ما اشار إليه جلالة الملك في كلماته عندما علّق على الموضوع منذ بدايته.
التمترس الاردني خلف موقفه لم يكن للاستهلاك الاعلامي بل عن دراية لمآلات المشهد وعن قناعة تامة بأن من يتحدث عن السلام والجوار يجب أن يعي تماماً أن هذا الأمر ليس واجباً على طرف وحقاً للطرف الآخر، ومن غير المنطقي بيع الأوهام عن السلام للعالم بينما البضاعة آخذة في الكساد، كما ليس لزاماً على طرف أن يقوم بواجباته بينما يسترخي الطرف الآخر في انتظار الهبات، فالعلاقة لا تنتهي ضمن هذه الزوايا دون أي تبادل وارتدادات.
هنا، تؤكد المواقف الرسمية الأردنية التي تجددت أمس على لسان وزير الخارجية وشؤون المغتربين أيمن الصفدي خلال اتصاله بنظيره الأمريكي، وإدانة الحكومة الأردنية للاستفزازات الإسرائيلية في القدس والتحذير من المساس بالوضع القائم فيها استنداً للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، أن الأردن لا يساوم على أي جزء من قضيته وقضايا أمته، ولا من مصلحته الوطنية.
يبدو من الأفضل أن توفّر اسرائيل على مصادرها عناء إطلاق التصريحات وتنويعها وتقديم المقترحات والبدائل غير المجدية طالما أن الشروط واضحة لتعبيد الطريق، فالموقف منذ ٤ شهور لم يتغير ولا يزال ثابتاً.
ولعل الأجدى هو اقتناع حكومة نتنياهو أن القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية التي تسعى لاختراقها في كل مسلك لها ستكون هي ولا غيرهما أساس الاحتكام والفصل في التعامل مع حادثة السفارة قانونيا ودبلوماسياً.